حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثالث والعشرون

صفحة 275 - الجزء 1

  قوله #: وَاصْرِفُوا هِمَمَكُمْ إِلَى التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ.

  الصرف: هو تحريف الشيء عن سَنَنِهِ الذي كان متوجهاً إليه، هذا أصله. والهِمم جمع هِمَّةٍ، والهِمَّة هي العزيمة على فعل أمر يصعب فعله، ولا تُتيقَّن حقيقة عاقبته. والتقرب هو طلب القُرْب بأنواع ما يُحَبِّب عند الْمُتَقَرَّب إليه، وقد تقدم الكلام في معنى الطاعة.

  المَعْنَى: أنه # وهو مُعَلّم الخير، وطبيب الدين أمرنا بصرف هممنا إلى التقرب إلى الله سبحانه، وهو التحبُّب إليه بطاعته؛ لأنَّ العبد ما تحبَّب إلى مولاه بمثل امتثال مراده في فعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه.

  قوله #: إِنَّهُ مَنْ بَدَأ بِنَصِيبِهِ مِنَ الدُّنْيَا فَاتَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا مَا يُرِيدُ، وَمَنْ بَدَأ بِنَصِيبِهِ مِنَ الْآخِرَةِ وَصَلَ إِلَيْهِ نَصِيبُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَدْرَكَ مِنَ الْآخِرَةِ مَا يُرِيدُ.

  بدأ نقيض أعاد، وهو أصل ثنَّى. والنصيب، والحظ، والحق، والحِصَّة، والسُّهْمَة معناها واحد، وهو ما يحصل للإنسان عن قِسْمَةٍ أو ما يجري مجراها. ومعنى لفظ الدنيا قد تقدم. فاته: سَبَقَه وضاع عليه، أصلُ الفَوْتِ السَّبْقُ. والإدراك هو اللَّحَاق هاهنا. ويريد نقيض يكره.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أخبرنا وهو الصادق في خبره أن المشتغل بطلب نصيبه من الدنيا مُفَوِّتٌ على نفسه نصيبه في الآخرة؛ لأنَّ ما به عبدٌ إلَّا وله في الدنيا نصيب مضمون، وفي الآخرة نصيبٌ مشروط، فمن اشتغل بتحصيل المضمون كان عابثاً عند العقلاء؛ لأنه اشتغل بتحصيل ما هو في حكم الحاصل، وأوصل ما هو بغير عناية واصلٌ، فلم يشتغل - والحال هذه - بطائل.

  ولأنَّ من بدأ بنصيبه من الدنيا لم يصل إليه إن كان من الموحدين ولا في الآخرة إن كان من الملحدين؛ لأن العاقل إن كان من المصدقين بالآخرة فإنه يريد المغفرة، ودخول الجنة مع المعاصي، وذلك لا يصح، وإن كان ملحداً فعند انكشاف الغطاء يريد المصير إلى الخير الدائم، وينفر عن الشر الملازم، فلا يدرك - والحال هذه - مراده.

  ومن بدأ بنصيبه من الآخرة - معناه: بطلبِ نصيبِه في الآخرة، وطلبه لا يكون إلا بفعل الواجبات، وترك المقبحات - وصل إليه نصيبه من الدنيا؛ إذ هو مضمونٌ له عند الحكيم سبحانه لإبلاغ الحجة على العباد، وإزاحة علل أهل العناد، وأدرك من الآخرة ما يريد من الثواب المؤبد، والنعيم المردّدْ، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن بدأ بنصيبه من الآخرة ففاز بقِدْح القامرين، وبقي له لسانُ صدق في الآخرين، والصلاة على محمد وآله.