حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثالث والعشرون

صفحة 277 - الجزء 1

  والموعظة قد تقدم الكلام فيها.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # نهى بلفظ الإغراء عن فُضُول المطعم وهو كثرة المأكل والمشرب، وأخبر - وهو لا يُتَّهم في خبره - أنها تَسِمُ القلبَ بالقسوة، وذلك معروف بالمشاهدة، وأكثرُ الناس أكْلاً أكثرُهم نوماً وغفلة، وما خير من قَسَا قلْبُه في دنياه وآخرته، ألا ترى أنه ينسى المعاد وهَوْلَه، والقبر وضيقه، والسؤال وشدته، والحساب ودقائقه، والعذاب ووَحْشته، فلا يُعِدُّ لشيء من ذلك أُهبته، فيفجأه الأمر منتشر الحال، فيؤول شرَّ مآل، وأما بُطؤها بالجوارح عن الطاعة؛ فمما لا شك فيه، وعلى كل حالٍ البِطْنَةُ مذمومة عند العقلاء من الجاهلية، ولقد كانوا يمدحون بالجوع، ويذمون بالشبع، قال الحُطَيْئَةُ في الزِّبْرِقانِ بنِ بَدْرٍ⁣(⁣١):

  دَعِ الْمَكارِمَ لَا تنْهَضْ لِبُغْيَتِها ... واقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي

  وقال أعشى باهلة يمدح المنتشر القيسي⁣(⁣٢)، وقتل فقال:

  مُهَفْهَفٌ⁣(⁣٣) أَهْضَمُ الكَشْحَيْنِ مُنْخَرِقٌ ... عَنْه القَمِيصُ، لسَيْرِ اللَّيلِ مُحْتَقِرُ

  لا يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلَا وَصَبٍ ... وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ⁣(⁣٤)

  يقول ضامر البطن لا ينام من الجوع، وقال بعضهم يفتخر بصبره:


(١) الزبْرِقَان بن بدر بن امْرِئ الْقَيْس التَّمِيمِي، اسْمه الْحُصين، والزبرقان لقب لَهُ، وَفد على رَسُول ÷ فِي قومه وأسلم سنة تسع، فولاّه رَسُول الله ÷ صدقَات قومه، توفي نحو سنة ٤٥ هـ.

(٢) قال في هامش الأصل: سمي المنتشر لأنه قال في آخر القصيدة:

فإنْ سَلَكْتَ سَبيلاً كُنْتَ سَالِكَها ... فَاذْهَبْ، فَلاَ يُبْعِدَنْكَ اللَّهُ مُنْتَشِرُ

أي: يا منتشر، تمت من الجوهرة، انتهى. قلنا: وأعشى باهلة مَرَّ ذكره في شرح الحديث التاسع، والبيتان هما من مرثيته في المنتشر التي سبق ذكر مطلعها هناك. والمنتشر بن وهب الباهلي، من همدان: فارس يماني، من الرؤساء في الجاهلية. كَانَ يسْبق الْفرَسَ شدًّا. وكان بنو الحارث يسمونه (مُجَدِّعا) وهو أخو أعشى باهلة لأمه ... وأورد البغدادي خبر مقتله مع شرح هذه القصيدة (انظر الأعلام للزركلي ٧/ ٢٩٠) (خزانة الأدب للبغدادي ١/ ١٨٨).

(٣) الْمُهَفْهَفَةُ: المرْأَةُ الخَمِيصَةُ البَطْنِ، والكَشْحُ: الْخَصْرُ، والخصرُ وَسَطُ الإنسانِ، تمت ضياء، هامش (أ).

(٤) الأَيْنُ: الإعياء، الشَّراسِفُ: أطْرَافُ الضُّلُوع، والصَّفَرُ: قيل دُوَيْبَة في البطن تثور عند الجوع، وبعض هذا قول العرب، تمت منقولة مما نقل من خطه #، (هامش نسخة وهامش الأصل) والْوَصَبُ: الْمَرَضُ، وعجز البيت الشعري الثاني هو عجز بيت آخر في نفس القصيدة، ذكر ذلك في هامش الأصل.