حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الفضيل بن عياض وقصة توبته]

صفحة 278 - الجزء 1

  أُقَسِّمُ جِسْمِي في جُسُومٍ كَثِيرَةٍ ... وأَحْسُو قَرَاحَ الْمَاءِ، والْمَاءُ بَارِدُ

  فأمَّا الإسلام فلا كلام، قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}⁣[الحشر: ٩] معناه جوع وضيق حال، وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ١٥٥}⁣[البقرة] وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ٨}⁣[الإنسان] نزلت في علي # وأهل بيته، ولولا جوعهم ما كان الطعام عندهم محبوباً، وفي الحديث أن عليّاً # كان يفطر في شهر رمضان - زاده الله شرفاً - الذي استشهد فيه ليلةً عند الحسن بن علي، وليلةً عند الحسين بن علي @، وليلةً عند عبد الله بن جعفر، وليلة عند عبد الله بن عباس، فلا يزيد على ثلاث لقم، فقيل له في ذلك، فقال #: (أَحُبُّ أنْ أَلْقَى اللهَ خَمِيصاً).

  وعن بعض الصالحين: والله إني لآكل الأكلة، فأوَّد أنها في بطني آجُرَّةً، ولو شرحنا الأشْهَرَ من ذلك لطال الشرح، وخرجنا إلى الإسهاب.

  فأما صَمَمُ الهمم عن سماع الموعظة فأيُّ بلية أعظم منها، ولهذا حكى الله سبحانه عن المستكبرين: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ١٣٦}⁣[الشعراء] وهل يَردُّ العبادَ إلى طريق الرشاد إلا المواعظُ النافعة، والذِّكَرُ الواقعة! فكم لها من نعيشٍ بعد كمال العثرة، ومُغَاثٍ عند انقطاع النُّصْرة، ولا أحسن ولا أشفى من مواعظ رب العالمين، فتأملها ترى العجيب.

[الفضيل بن عياض وقصة توبته]

  في الرواية أن الفُضَيل بن عياض | كان في أوله خارباً⁣(⁣١) قاطعاً للسبيل، فبينا هو على تلك الحال في مفازة مُرْصِداً لمارَّة الطريق؛ إذ هو بقوم مجتازين يحضُّ بعضهم بعضاً على النجا، وهم يقولون: لا يفجأكم الفُضَيل، فَوُفِّقَ لرشده، فقال في نفسه: أنا مخلوقٌ؛ ويخافني الخلق هذا الخوف العظيم، ولا أخاف الله تعالى! فبدا لهم⁣(⁣٢)، وهم لا يعرفونه، وسلَّم عليهم، وقال: على رِسْلِكم⁣(⁣٣) هَوِّنوا. قالوا: فإنا نخاف الفُضَيل! قال: أنا جارٌ لكم منه. قالوا: أو يكون ذلك؟! قال:


(١) الخارِبُ: سارِقُ الإِبِلِ خاصَّةً، لسان العرب (١/ ٣٤٨).

(٢) في الأصل: فبدأهم.

(٣) الرِّسْلُ بِالْكَسْرِ: الْهِينَةُ وَالتَّأَنِّي. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا عَلَى رِسْلِكَ بِالْكَسْرِ: أَيِ اتَّئد فِيهِ، (النهاية ٢/ ٢٢٢).