حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الفضيل بن عياض وقصة توبته]

صفحة 279 - الجزء 1

  نعم. فأقاموا واستراحوا وخدمهم بنفسه، فلما رجع من بعض خِدَمِهِم إذ بقارٍ منهم يقرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ١٦}⁣[الحديد] فقال: بلى والله قد آن، بلى والله قد آن، ثم أعلن بالبكاء، وعرَّفهم نفسَه، وأظهر التوبة، فكان من أمره ما كان.

  قوله #: وَإِيَّاكُمْ وَفُضُولَ النَّظَرِ فَإِنَّهُ يَبْذُرُ الْهَوَى، وَيُوَلِّدُ الْغَفْلَةَ.

  النظر هاهنا هو تقليبُ الحدقة السليمة نحو المرئي الْتِمَاساً لرؤيته. والبَذْرُ طرح الحَبِّ في الطين لينبت ويثمر، وأصل البذر الطرح، ولهذا ذمَّ الله المبذِّرين، كأنهم ألقوا مالهم في غير موضعه. والتوليد: حصول الشيء من الشيء بواسطة. والغفلة من أنواع السهو، وأصله النسيان، ومنه قولهم: بعيرٌ غُفْلٌ للذي لا آثار فيه، كأنه نُسي فلم يوسم⁣(⁣١)، وجمعها أغفال.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # نهى عن فضول النظر، والمراد بذلك: النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من النساء المحرمات، والأصل في ذلك أنَّ كلَّ نَظَرٍ لشهوةٍ فهو حرامٌ، سواء كان إلى المحارم أو إلى غيرهن، ما خلا الزوجات والمملوكات، وإنما كان ذلك لأنَّ ما قرَّب إلى القبيح فهو قبيح، والنظر سهام مسمومة، يُقْتَل بها من⁣(⁣٢) استعملها ديناً ودنيا، أمَّا الدنيا فيُسقِط المروءة، ويُقِلّ الهيبة، وأمَّا الآخرة فهي أسباب التهور في هوى الهلاك، وأقوى حبائل الشيطان، وشِباك الضلال، قال الشاعر:

  فَرِيعَ قَلْبِي وَكَانَتْ نَظْرَةٌ عَرَضَتْ ... حَيْناً وَتَوْفيقَ أَقْدارٍ لِأقْدَارِ⁣(⁣٣)

  وقال آخر:

  ألَيْسَ قَلِيلاً نَظْرَةٌ إنْ نَظَرْتُهَا ... إلَيْكِ وكَلَّا لَيْسَ مِنْكِ قليلُ

  فجعل النظر من أنواع الاستمتاع، ولذلك استكثر قليله.


(١) أيْ لم يوسم بِسِمَةٍ يُعْرَفُ بها، مِثْلُ الكَيِّ ونحوه، قال في تهذيب اللغة (١٣/ ٧٧): بَعِيرٌ مَوْسُوم: أَي قد وُسِم بِسمَةٍ يُعرَف بهَا، إِمَّا كيّةٌ أَو قَطْعٌ فِي أذُنه، أَو قَرْمَةٌ تكونُ عَلامَة لَهُ، ا. هـ.

(٢) في النسخة (أ) ونسخة أخرى: تَقْتُلُ مَنِ اسْتَعْمَلَها.

(٣) البيت من معلقة النابغة الذبياني التي مطلعها:

عُوجُوا فحَيّوا لِنُعْمٍ دِمْنَةَ الدَّارِ ... مَاذَا تُحَيّونَ مِنْ نُؤْيٍ وأَحْجَارِ؟.