الحديث السابع والعشرون
  قوله #: فَعَلَامَ تُعَرِّجُونَ؟! وَمَاذَا تَنْتَظِرُونَ؟!
  التعريج: هو أن يُمِيلَ الإنسانُ راحلته إلى بعض أغراضه لقضاء حاجة، أو عيادة وطن، وَتَذَكُّرِ رسْمٍ، وهو ظاهر في لسانهم جداً، ومنه سُمي الأعرج لميلان سيره، فكأنَّ الصادر لحاجته عرَّجَ عن سَنَنِ أصحابه، قال شاعرهم:
  عَرِّجْ عَلَى الدَّارِ بالْمْلَحاءِ والدِّمَنِ ... بَادَتْ وَأَخْنَى(١) بِهَا خَالٍ مِنَ الزَّمَن
  والانتظار والتربص والتأمل متقاربة، وكان الذي ينتظر غيره يشخص ببصره إلى جهته، فلما كثر سُمي نظراً وانتظاراً، وإن لم يُرْعِهِ طرفَه إذا كان في تَرَجِّيه.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # بيَّنَ لنا أن الدنيا فانية، وقد ذهب أجْزَلُها، وهو ماضيها، فما حالُ أقلِّها وهو باقيها؟! فعلام نُعَرِّج إلى ما هذه حاله، وهو ذاهبٌ ماضٍ لا خير فيه، ولا حقيقة له، ولا بقاء ولا خُلُوص من المكدِّرات والأذى، وماذا ننتظر بعد الماضين الأولين؛ ونحن عما قليل بهم لاحقون، وإلى حالهم صائرون.
  قوله #: فَكَأَنَّكُمْ وَاللَّهِ بِمَا قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا كَأْنْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا تَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْآخِرَةِ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ.
  الأزَل هو الدهر، وفي بعض دعاء الأوائل: يا أزل الأزل، لَمَّا كان مؤَزِّلَ الأزَل سماه أزلاً، فمعنى لم يَزَل معناه الدهر ما بَرِحَ، جعل لَفْظ الدَّهر جُملةَ المعنى، وباقي اللفظ قد تقدم تفسيره.
  المَعْنَى: أنه # أقسم - وهو صادق القسم - أنَّ ما أصبحنا فيه من الدنيا يعود عما قليل كأن لم يكن؛ لزواله وذهابه وانتقاله، وتحول حاله، وقد رأينا ذلك عياناً فيما مضى من أيامنا هل بقي منه إلَّا ذكره؟! وهل دام لنا شيء من سروره؛ أو دام علينا شيء من غمه؟! بل غدَا كل شيء لوقته، وزال لحينه، ومضى لحال سبيله، فلم يبق إلا تبعته؛ إنْ خيراً فخيراً، وإنْ شرّاً فشرّاً، وكذلك ما نصير إليه من الآخرة يصير كأنه لم يزل، لكوننا عليه وفيه، وشاهد هذا معلوم لنا من
(١) وَأَخْنَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ أَتَى عَلَيْهِ وَأَهْلَكَهُ. (مختار الصحاح» ص ٩٨).