الحديث السابع والعشرون
  أنفسنا، وقد قال من يُعْتَدُّ بقوله من أهل اللسان(١):
  لَعَمْرُكَ ما الْإنْسانُ إلَّا ابْنُ يَوْمِهِ ... عَلَى ما تَجَلَّى يَوْمُهُ لَا ابْنُ أَمْسِه
  وذلك حقٌّ؛ لأنَّ الإنسان إنْ لقي في يومه خيراً فكأنه ما لقي الشرَّ أبداً، وإن لقي شرّاً فكأنه ما لقي الخير أصلاً، فإذا صرنا إلى الآخرة - ونحن لا محالة إليها صائرون - فكأننا ما زلنا فيها لابثين، وكأنا لم نعرف غيرها، إنْ كُنَّا في خيرها - وهو رجاؤنا من الله سبحانه - فكأنَّا ما رأينا شرّاً، وإنْ كُنَّا في شرِّها - والعياذ بالله - فكأنَّا ما رأينا خيراً. فإذا كان الأمر هكذا كان الأَوْلى بنا تقديم أعمال الخير، واستحقاب(٢) أسباب الرشد، والاقتداء بالصالحين الذين رفضوها، وقلَّلوها في أعيانهم فكانت نغماتها طنين الذباب، ولذاتها رقراق السراب(٣)، فصرفوا عنها أسماعهم، وأعَدُّوا ماءهم ومتاعهم، وصمدوا صَمْدَ دار المقامة، ومنزل الإقامة، فكافحوا كل صادٍّ لهم عن محطِّ رحالهم، وممدود ظلالهم، فنسوا التعب، وأفضوا إلى النعيم المقيم، والخير الجسيم.
  قوله #: فَخُذُوا الْأُهْبَةَ لِأُزُوفِ النُّقْلَةِ، وَأَعِدُّوا الزَّادَ لِقُرْبِ الرِّحْلَةِ.
  قد تقدم الكلام في الأهبة. والأزوف معناه الدنوُّ. والنُّقلة والانتقال واحد. والإعداد جمع العُدَّةِ، والعُدَّةُ ما يحتاجه الإنسان. والقُرْبُ ظاهرٌ. الرحلة هي الارتحال، وقد تقدم معناها اللغوي مستوفى.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أمرنا أنْ نأخُذَ الأُهبة وهو التهيُّؤْ بما يحتاج إليه المنتقل، فإنَّ النُّقلة قد أزفت، وذلك ما لا شك فيه، ولا مِرْيَةَ تعتريه، لأنَّ كلَّ آتٍ قريب، والانتقال آتٍ لا
(١) قال في هامش الأصل: هو الحريري، وبعده:
وما الفَخْرُ بالْعَظْمِ الرّميمِ وإنّما ... فَخارُ الذي يَبْغِي الْفَخارَ بنفْسِه
(٢) الاسْتِحْقَابُ: التَّزَوُّدُ، والادِّخارُ، قال في لسان العرب (١/ ٣٢٥): الحَقَبُ: حَبْلٌ تُشَدُّ بِهِ الحَقِيبةُ. والحَقِيبةُ: الرِّفادةُ فِي مُؤَخَّر القَتَبِ، ... قال الأَزهري: الاحْتِقابُ شَدُّ الحَقِيبةِ مِنْ خَلْفٍ، وَكَذَلِكَ مَا حُمِلَ مِن شَيْءٍ مِنْ خَلْفٍ، يُقَالُ: احْتَقَبَ واسْتَحْقَبَ، ا. هـ ..
(٣) رَقْراقُ السَّرابِ: ما تَرَقْرَقَ مِنْهُ. أي: جاء وذَهَبَ، وكُلُّ شَيْءٍ لَهُ تلأْلُؤ، فَهُوَ رَقْراق (الصحاح: ٤/ ١٤٨٤).