حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث السابع والعشرون

صفحة 301 - الجزء 1

  محالة، واجْمَعُوا زادكم وزِنادكم ومَزادكم⁣(⁣١)، فإنَّ رحلتكم قد قربت، ودارَكم التي تصيرون إليها قد بانت وعَزَبَتْ⁣(⁣٢)، وبينكم وبينها مسافة؛ بعيدةٌ على المسترسلين، قريبةٌ على المعِدِّين المستظهِرين، فلا تكونوا من العاجزين، فقد أُوذِنْتُم بالرحيل، وبُيِّنَ لكم السبيل، وأُعْلِمْتُم أنَّ الطريق مَظْمَاةٌ⁣(⁣٣) مَخُوفة، تنتهي إلى عقبة كؤود، لا يقطعها إلا من خفَّف ظهره من الأوزار، وهجر الإصرار، فواصل التوبة، ورَحَضَ⁣(⁣٤) الحوبة، وأعدَّ العُدَّة لسفره، ورمى إلى منزله من الجنة ببصره، فاستصغر كلَّ خَطَرٍ دونه، واستقْرَبَ كلَّ بعيدٍ بينه وبينه، فلَمْ يَعُقْهُ هولٌ، ولا رَدَعه فِعلٌ ولا قولٌ.

  قوله #: وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ امْرِئٍ عَلَى مَا قَدَّم قَادِمٌ، وَعَلَى مَا خَلَّفَ نَادِمٌ.

  قد تقدم الكلام في التقديم، والتخليف نقيضه. والندم هو نوع من الغم إلا أنه لا يكون إلا على فائت، وهو نقيض العزم.

  المَعْنَى: أنَّ كل امْرئ يَقْدَم على ما قدَّم، ويندَم على ما خلَّف، فإذا كان هذا الخبر ممن قامت البراهينُ بصدقه، فلِمَ لا يُقَدِّم أعمال الخير، وأنواع البر؟! ولأي شيء يُخلِّف ما يندم عليه بشهادة الصادق في خبره؟! ما هذا عمل المستبصرين في أمرهم، المجتهدين في نجاة أنفسهم، إنما حقّ أنفسنا علينا أنْ نتحرَّى لها الصلاح بجُهدنا، وأن لا تُؤتَى فيما يصل إليها من المكروه من قِبَلِنَا، وقد جُعل الميدان مفرَّغاً للساعين منّا، وعُرِّفْنا أحكام أفعالنا، ولم تُجعل لنا رخصةٌ في الغفلة عن حسن الاختيار، فما قولك لو كُلِّفْنا ترك الاختيار لأنفسنا؛ هل كان في التكليف اشقّ من تكليفنا؟! وهل


(١) الزَّنْدُ: مَوْصِلُ طَرَفِ الذِّراعِ في الكَفِّ، وهُما زَنْدانِ، والعُودُ الذي يُقْدَحُ به النارُ، والسُّفْلَى: زَنْدَةٌ، ولا يقالُ: زَنْدَتانِ، الجمع: زِنادٌ وأزْنُدٌ وأزْنادٌ. وتقولُ لِمنْ أَنْجَدَكَ وأعانَكَ: وَرَتْ بِكَ زِنادِي، (القاموس: ٢٨٥).

والْمَزادُ: جَمْع مَزادَة، والْمَزَادَةُ الَّتِي يُحْمَلُ فِيهَا الْمَاءُ، وَهِيَ مَا فُئم [وُسِّعَ] بِجِلْدٍ ثَالِثٍ بَيْنِ الْجِلْدَيْنِ لِيَتَّسِعَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَكَانِ الزِّيَادَةِ، (لسان العرب: ٣/ ١٩٩).

(٢) بَانَتْ بمعنى: بَعُدَتْ وفَارَقَتْ، ومعنى عَزَبَتْ: غابَتْ وذَهَبَتْ، قاموس.

(٣) قال في هامش الأصل: قليلة الماء، أ. هـ. وقال في اللسان (١/ ١١٦): المَظْمَأُ: مَوْضِعُ الظَّمإ مِنَ الأَرض.

(٤) رَحَضَهُ، كمَنَعَهُ: غَسَلَهُ، ... والمِرْحاضُ، بالكسر: خَشَبَةٌ يُضْرَبُ بها الثوبُ، والمُغْتَسَلُ، وقد يُكْنَى به عن مَطْرَحِ العَذِرَةِ، وكمِكْنَسَةٍ: شيءٌ يُتَوَضَّأُ فيهِ مثلُ الكَنِيفِ. (القاموس المحيط: ٦٤٣). والْحَوْبَةُ: الإِثْمُ، ويضم.