حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[موعظة بليغة في حقيقة الزهاد ونظرتهم إلى الدنيا]

صفحة 312 - الجزء 1

[موعظة بليغة في حقيقة الزهاد ونظرتهم إلى الدنيا]

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # قدَّم الطبق الذي يجب أن يُقدَّم؛ لكونه أشرف وأعظم، أمَّا أنهم لم يرغبوا في جمع المال وادِّخاره، ولا سعوا في اقتنائه واحتكاره؛ فلِعِلْمِهم أنَّ كلَّ مجموع يؤول حساباً، وكلَّ محتكَر ينقلب عقاباً، وقد عرفوا مآل جمع الجامعين، وحَكْرَةِ المحتكِرين أنه انتهى إلى التبديد والتفريق، والتشتيت والتمزيق، فلم يستقر له أربابُه، ولا بقي لجامعيه نِصَابُه، بل بقي عليهم حسابُه، فرفضوه رفض المحايض⁣(⁣١) القذرة، وعافوه عِيفة الجيفة المذرة⁣(⁣٢)، صَغُرَ في أعينهم كبيره، وحَقُرَ عظيمه، ورغبوا عنه ولم يرغبوا فيه، وسعوا منه ولم يسعوا له، وحكروا العمل الصالح، وادخروا السعي المفيد، فكان نهاية رضاهم عن الدنيا سدَّ جوعة لتستقيم لهم آلة العبادة، وسَتْرَ العورة ليُؤَدُّوا الفروض كاملة، وأرادوا هذا السبب اليسير منها لغيرها، ففازوا مع الفائزين، ونجح سعيهم، وصَلُحت أمورهم، وبلغوا مبالغ الصالحين السابقين الذين نبذوا الدنيا وراء ظهورهم، وجعلوا الآخرة نصب عيونهم، فأماتوا الفاني، وأحيوا الباقي، وطلبوا الأمر من وجهه، وطبَّقوا مَفْصِلَ⁣(⁣٣) الصواب لحينه، فوصلوا الآخرة آمنين لا خوف عليهم؛ لأن الخوف أمَّنهم، ولا هم يحزنون؛ لأن الحزن شعار غيرهم، كُتبتْ لهم براءة من ذلك كله، فجاءوا بها مختومة ففُضَّتْ، فقيل لهم: جوزوا، فقد أنجزتم العمل، وأنجز ربكم لكم الوعد، فأنتم الفائزون حقّاً.

  قوله #: وَأَمَّا الطَّبَقُ الثَّانِي: فَيُحِبُّونَ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ أَطْيَبِ سُبُلِهِ، وَصرْفَهُ فِي أَحْسَنِ وُجُوِهِهِ، يَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَهُمْ، وَيَبَرُّونَ بِهِ إِخْوَانَهُمْ، وَيُوَاسُونَ بِهِ فُقَرَاءَهُمْ، وَلَعَضُّ أَحَدِهُمْ عَلَى الرَّصَفِ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكْتَسِبَ دِرْهَماً مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، أَوْ أَنْ يَضَعَهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ،


(١) المَحايِضُ: جَمْعُ مِحْيَضَة، وَهِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تَسْتَثْفِرُ بِهَا الْمَرْأَةُ، ويقال أيضا: حِيضَة، (انظر صحاح الجوهري ٣/ ١٠٧٣).

(٢) الْمَذِرَةُ: الْفَاسِدَةُ، والْمَذَرُ: الفسادُ؛ وَقَدْ مَذِرَتْ تَمْذَرُ، فَهِيَ مَذِرَةٌ؛ وَمِنْهُ: مَذِرَتِ البيضةُ أَي فَسدَتْ، (انظر لسان العرب ٥/ ١٦٤).

(٣) يُقالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَصاب الْحُجَّةَ: إِنَّهُ يُطَبِّقُ الْمَفْصِلَ، والْمَفْصِلُ: هو مُلْتَقَى الْعَظْمَيْنِ، قال في هامش (أ): طبَّقَ عُنُقَه بالسَّيْفِ: إذا أبانها، وطبَّقَ السيفُ: إذا أصَابَ الْمَفْصِلَ وَلَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ يميناً أو شمالًا، تمت ضياء.