حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[موعظة بليغة في حقيقة الزهاد ونظرتهم إلى الدنيا]

صفحة 314 - الجزء 1

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: ثم أتبعهم # بهذا الطبق الثاني، وأين هم اليوم؟! فالله المستعان، وهم الذين يحبون جمع المال من أطيب سبله أي طرقه، ولا يرغبون في جمع الحرام، ولا لَفِّ الحطام، وإنما يريدون كسب الحلال؛ لما بيَّنَ # من كريم الخِلال، ويصرفون ذلك في أحسن الوجوه والمسالك، من صلة الأرحام، وبِرِّ الإخوان، ومواساة الفقراء.

  ثم بيَّنَ # شدة ورعهم، وقلة طمعهم، وأن أحدهم يسْتَهْوِنُ العض على الرصَف - وهي الحجارة المحماة التي لا تنْقَرِب - أسهل على أحدهم من أنْ يكتسب درهماً من غير حِلِّه، أو أن يضعه في غير وجهه، أو أن يكون خازناً له إلى حين موته أي خابياً له وحافظاً، ليُخَلِّفَه ميراثاً لوارثه، لا يريد بذلك وجه ربه.

  ثم بيَّن # أن أولئك هم الذين إن نوقشوا عُذِّبوا بالمناقشة لا غير، بمعنى أُتْعِبوا وسجنوا، وإنْ عفي عنهم من المناقشة - بأنْ يحاسبوا حساباً يسيراً - سَلِموا من عذاب المناقشة، ومشقة المطالبة، فانظر أرشدك الله إلى هذه الطبقة ما أعلاها وأغلاها في وقتنا هذا، وأَجِلْ⁣(⁣١) على خاطرك: من بقي منهم؟! وهل هي في وقتنا هذا إلا غُرَّةٌ في وجه الزمان، أو درة في عِقْدِ الإيمان!. ومن لنا بأولئك لنتعلق بأهدابهم، ونتمسح بأثوابهم.

  وأمَّا - رحمك الله - المدعون لهذه الحالة وما فوقها فكثير، ولكن شاهدُ الحال يفضحهم؛ ترى أحدهم يتشكك في القطرة من ماء السماء تصيب ثوبه، ولعلَّه لو أُعطي صُرَّةً فيها ألف دينار لقال: صَمِّي صَمام⁣(⁣٢)، لا خَلْف ولا أمام، لا يصل منها فقيراً، ولا يَبُلُّ⁣(⁣٣) منها رَحِماً، ولا يَبَرُّ أخاً، فنسأل الله التوفيق.


(١) هُوَ فِعْلُ الْأَمْرِ مِنْ أَجَالَ، قال في المصباح المنير (١/ ١١٥) أَجَالَ سَيْفَهُ إذَا لَعِبَ بِهِ وَأَدَارَهُ عَلَى جَوَانِبِهِ.

(٢) صَمِّي صَمامِ، أي: زِيدي يا داهِيَةُ، (القاموس المحيط ١١٣٠).

(٣) بَلَّ رَحِمَه يَبُلُّها بَلًّا وبِلالًا: وَصَلَهَا. وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ، ÷: «بُلُّوا أَرحامَكم وَلَوْ بالسَّلام» أَي نَدُّوها بالصِّلة. قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهُمْ يُطْلِقون النَّداوَة عَلَى الصِّلة كَمَا يُطْلِقون اليُبْس عَلَى القَطِيعة، (النهاية ١/ ١٥٣).