تقديم الإمام #
  وبعد ذلك: فقد سألني بعض من تلزمني عهدة إجابته، ويتعين عليَّ فرضُ مساعدته، من أفاضل الإخوان المرشدين، الهادين بحمد الله المهتدين، أنْ أشرح للمسترشدين معاني الأحاديث الأربعين النبوية السيلقية، بإيضاح ألفاظها اللُّغوية، وإفصاح فوائدها المعنوية، لتتفتح أكمامُها، وتتضح أحكامُها، وتنتشر أعلامها، فأجبته إلى ذلك جوابَ النجيد المجهود إلى اللُّهام(١) المعقود، ولكن لا تخلف للمغير، فمدَدْتُ كفَّ الإمكان، إلى منتهى الإحسان، بعد الاستعانة بذي الإعانة، والاستكانة لذي المكانة، وإلَّا فمن أين؟! وأنَّى؟! وكيف؟! ومتى يروم المجتهد الإحاطة بجميع معانيها؟! بل الضليع المتجرد البلوغ إلى أدنى أدانيها، فضلاً عن أقصى أقاصيها، ولِمَ لا وهي مأخوذة في الحُكْم عن العليم الحكيم، الذي لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل نفادها، وانحصرت أجزاء أعداده قبل انحصار أجزاء أعدادها، وهو عَزَّ من قائل يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ٨٥}[الإسراء] فكيف يتصدى ذو معرفة؛ وينطق ذو شفه؛ للإحاطة بكنه غرائبها، والإتيان بمعاني عجائبها، ولقد بسطنا بعد الانقباض، وبردنا بعد الارتماض(٢) قول الحكيم سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: ٢٨٥].
  فنسأل الله سبحانه التوفيق لما يوافق مراده، ويكبت أضداده، وقد قمنا في ذلك قيام من تحرّج من ردِّ السائل، ومنع النائل، مائلين إلى الاختصار، متنكبين طريقة الإكثار، وأوردنا الأخبار مجردة عن الأسانيد لكون ذلك بحمد الله موجودًا في نسخ سماعنا، وكتب أصحابنا، وإنما نَذْكُر راوي الحديث عن لفظ النبي ÷ إلى سمعه أو إلى سمع من أسمعه النبي ÷ ذلك كذلك، وطرفًا من نسبه، وإشارة إلى بعض حاله؛ ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنَّ أهل هذا الشأن كانوا عيونًا قادة، عدولًا سادة، سمعوا وحفظوا، وأدَّوا ما سمعوا كما سمعوا، فجزاهم الله عنَّا خيرًا وعن كافة المسلمين، وجعل نصيبهم الأوفى وقِدْحَهم الْمُعَلَّى، ووسمنا كتابنا هذا بـ (حديقة الحكمة) ونرجو أن يكون اسمه بتوفيق الله سبحانه مشتقًّا من معناه، لا عَلَمًا يتميز به عن سواه.
(١) النجيد: الشجاع، والمجهود: هو الذي كربه الأمر إلى اللهام، واللهام: العسكر الكامل، هامش (أ).
(٢) الرَّمَضُ، محركةً: شِدَّةُ وَقْعِ الشمسِ على الرَّمْلِ وغيرِه. رَمِضَ يَوْمُنا، كفرحَ: اشْتَدَّ حَرُّه، ورَمِضَتْ قَدَمُه: احْتَرَقَتْ من الرَّمْضَاءِ، والرَّمْضَاءُ للأرضِ الشديدةِ الحَرارةِ (القاموس المحيط: ٦٤٤).