[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  وكم عسى أن نَعُدَّ من أحداثه؟! وإنما قَبِلْنا الرواية عنه لأنها في حال ستره قبل انكشاف أمره، ولِأنَّ الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها من كل من وجدها معه، ولِأنَّ الحديث مما يتعلق بالوعظ والتخويف. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ÷ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ أَحَدِ الْعِيدَيْنِ: «الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَمَنْزِلُ قُلْعَةٍ وَعَنَاءٍ، قَدْ نُزِعَتْ عَنْهَا نُفُوسُ السُّعَدَاءِ، وَانْتُزِعَتْ بِالْكُرْهِ مِنْ أَيْدِي الْأَشْقِيَاءِ، فَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا أَرْغَبُهُمْ عَنْهَا، وَأَشْقَاهُمْ بِهَا أَرْغَبُهُمْ فِيهَا، هِيَ الْغَاشَّةُ لِمَن اسْتَنْصَحَهَا، وَالْمُغْوِيَةُ لِمَنْ أَطَاعَهَا، وَالخَاتِرَةُ لِمَنِ انْقَادَ لَهَا، فَالْفَائِزُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، وَالْهَالِكُ مَنْ هَوَى فِيهَا، طُوبَى لِعَبْدٍ اتَّقَى فِيهَا رَبَّهُ، وَنَاصَحَ نَفْسَهُ، وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ، وَأَخَّرَ شَهْوَتَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْفِظَهُ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، فَيُصْبِحَ فِي بَطْنٍ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ، مُدْلَهِمَّةٍ ظَلْمَاءَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَسَنَةٍ، وَلَا يَنْقُصَ مِنْ سَيِّئَةٍ، ثُمَّ يُنْشَرُ فَيُحْشَرُ؛ إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ يَدُومُ نَعِيمُهَا، أَوْ إِلَى نَارٍ لَا يَنْفَدُ عَذَابُهَا».
  قد تقدم الكلام في الخطبة. أحد العيدين يريد الأضحى أو الفطر. وقد تقدم الكلام في أمر الدنيا والدار، والبلاءُ هو ما يُبتلى به الإنسان، أي يُخْتبر. قال الراجز:
  الْيَوْمَ أبْلُوكَ وَتَبْتَلِينِي ... وَالْيَوْمَ تَبْلُو غِلَظِي وَلِينِي
  والمنزل هو ما ينزله الإنسان أي يسكنه. والقُلْعة هو الانتقال بكرهٍ، لا يكون قُلْعةً إلا كذلك، فمن خرج باختياره فليس بمقلوع، وأصله من قلع الشجرة. والعَناء هو التعب والشدة. والنَّزْع هو الإخراج بِهونٍ، كما تُنزع الشعرة من العجين، والانتزاع لا يكون إلا بشدَّة وعناء. الكره والإكراه واحدٌ، وهو ما تنفر عنه النفس، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}[البقرة: ٢١٦] أي شاق عليكم. والأيدي جمع يد. والأشقياء جمع شقي.
[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # بيَّن أنَّ الدنيا دار بلاء، ومنزل قُلعة وعناء، وكذلك عرفناها وعايناها، من بلواها أن سرورها لا يدوم، وخيرَها لا يبقى، وصلاحَها لا يستمر، كم من مصبح