[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  حيّاً، وأمسى ميتاً؛ وغنيّاً وأمسى فقيراً؛ وآمراً فأمسى مأموراً، وقاهراً فانقلب مقهوراً، رَمَتْهُ سهامُها فأصْمَتْهُ، ورشقَتْهُ نبالُها فما أنمتْه(١)، فأيُّ بلاء أعظم من هذا؟! وهي لعمر الله منزل القُلعة والعناء، ومحطُّ النُّجْعة والفناء، وما أحق منها بهذا الاسم! فكم من ذي قصرٍ مَشِيدٍ قد عَطَّلتْ قصره؛ وذي جُنْدٍ مَحْشودٍ قد هزمتْ جندَه؛ وصاحبِ عديدٍ قد قلَّلَتْ عدَدَه؛ انظُرْ إلى ملوك بني ساسان، وأقيال غسان، وإنْ شئت فانظر إلى مُلْكِ بني مروان على قرب الزمان، الذين ملكوا المشارق والمغارب، وذلَّ لهم الأعاجم والأعارب، وكان يُخطَب للواحد منهم في يوم على ثمانين ألف منبر، فهل ترى لهم من باقية؟! فأيُّ قُلْعة وعناء أعظم من هذا؟! قد نُزِعَتْ عنها نفوس السُّعداء إلى دار الكرامة، ومنزل السلامة، وانتُزِعَتْ بالكُرْه من أيدي الأشقياء.
  المنتزَعةُ هي الدنيا بالكره من أيدي الأشقياء: إما بأنْ يُجذَبوا منها، أو تُجذَبَ منهم، فذلك انتزاعٌ من أيديهم. والأشقياء هم الذين شَقُوا، بمعنى خَسِروا وخابوا بتنكُّبهم منهاج رشدهم، وسعيهم فيما يوبقهم، فإذا كانت هذه حالها، فما وجه الرُّكون إليها، والاعتماد عليها، واتخاذِها دار قرار، ومركز عزٍّ وفخار؟!.
  قوله #: فَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهَا أَرْغَبُهُمْ عَنْهَا، وَأَشْقَاهُمْ بِهَا أَرْغَبُهُمْ فِيهَا.
  رغب عنه إذا كرهه، ورغب فيه إذا أحبَّه.
  المَعْنَى: أنَّ أسعد الناس بالدنيا من رغب عنها؛ لأنه إذا كرهها اتخذها معبراً إلى غيرها، ومجازاً إلى سواها، وقدَّم منها خيراً راجحاً، وعمل فيها عملاً صالحاً، وجعلها لنفسه متجراً رابحاً، فكانت رغبتُهُ عنها سبباً لسعادته بها. وأشقاهم بها - الهاء عائدة على الدنيا - أرغبهم فيها؛ لأنه إذا رغب فيها - بمعنى أحبها وحرص عليها - اتخذها منزل إقامَتِهِ، ودار مُقامَتِهِ، فجعل لها كَدْحَهُ، واستفرغ في جمعها جُهْدَهُ، وجعل لها سَعْيَهُ، فشقي بها شقاءً لا سَعْدَ بعده، وذلك أنه يُنتزع منها، ولم يَسْتَعِدَّ للنُّجْعَة، ولا يتأهب للنُّقْلَة، فيخرج من دار عامرة، وحالة ساترة، إلى دار شرورها
(١) أَصْمَتْهُ: أي قَتَلَتْهُ مَكَانَهُ، وَأَنْمَتْهُ إذا لَمْ تَقْتُلْهُ مَكانَهُ؛ بَلْ تَحَامَلَ بِالرَّمْيَةِ إلى مَكانٍ آخَرَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «كُلْ مَا أَصْمَيْتَ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ» أي كلْ ما رَمَيْتَهُ وَقَتَلْتَهُ مَكانَهُ، وَدَعْ ما باتَ غَائِباً مِنْكَ، تمت، هامش الأصل. (انظر القاموس المحيط: ١٣٠٤).