[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  للأشقياء عاهرة(١)، وثغورها بالمخاوف والدواهي عليهم فاغرة(٢)، وكان السبب في مصيره إلى ما هذا حاله رغبته في الدنيا وزهده في الآخرة، فيشقى بها شقاوة ظاهرة.
  قوله #: هِيَ الْغَاشَّةُ لِمَن اسْتَنْصَحَهَا، وَالْمُغْوِيَةُ لِمَنْ أَطَاعَهَا، وَالخَاتِرَةُ لِمَنِ انْقَادَ لَهَا، فَالْفَائِزُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، وَالْهَالِكُ مَنْ هَوَى فِيهَا.
  الغِشُّ: نقيض النُّصح، وهو أن تُظهِر خيراً، وتُضْمِر شرّاً، وفي الحديث أن النبي ÷ نظر حِنطة فأعجبته، فغَمَس يده في الطعام، ثم قَبض منه قبضةً، وأخرج يده فنظره دون الظاهر في الطِّيبِ، فقال #: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» والإغواء هو التعمية، وقد تقدم. والخَتْرُ هو الخيانة والمكر والخديعة. والانقياد هو المساعدة. والفائز كان في الأصل مَنْ يَكْثُرُ حَظُّ سهمه في الميسر، ثم صار من نجا وغنم في عرف العرب، وفي الشريعة شرفها الله تعالى: مَنْ زُحْزح عن النار وأُدْخِل الجنة. والهالك عندهم هو المايت والْمُدْنف(٣). والموت هو الهلاك، قال شاعرهم:
  فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بنْيانُ قَوْمٍ تَهَدَّما(٤)
(١) ... ومِنْهُ سُمِّيَ الزَّانِي عَاهِراً، إذَا اشْتَهَرَ فِعْلُهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» تمت، هامش الأصل.
(٢) الثُّغُورُ جَمْعُ ثَغْرٍ، وهُوَ مَوْضِعُ الْمَخَافَةِ مِنْ أَطْراف الْبِلَادِ، وفَاغِرَةٌ: مُفَتّحَةٌ شَاحِيَةٌ، قاموس.
(٣) المدْنف: بفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِهَا، قال في مختار الصحاح ص ١٠٧: (الدَّنَفُ) بِفَتْحَتَيْنِ الْمَرَضُ الْمُلَازِمُ وَرَجُلٌ (دَنَفٌ) أَيْضًا وَامْرَأَةٌ دَنَفٌ وَقَوْمٌ دَنَفٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ. فَإِنْ قُلْتَ: رَجُلٌ دَنِفٌ بِكَسْرِ النُّونِ قُلْتَ: امْرَأَةٌ دَنِفَةٌ فَأَنَّثْتَ وَثَنَيَّتَ وَجَمَعْتَ. وَقَدْ (دَنِفَ) الْمَرِيضُ مِنْ بَابِ طَرِبَ أَيْ ثَقُلَ وَ (أَدْنَفَ) مِثْلُهُ وَ (أَدْنَفَهُ) الْمَرَضُ يَتَعَدَّى وَيَلْزَمُ فَهُوَ (مُدْنِفٌ) وَ (مُدْنَفٌ) ا. هـ.
(٤) قيس المذكور في البيت: هو قيس بن عاصم، والبيت هو لعَبْدَةَ بنِ الطّبيب يرثي قيس، والبيت هو من الشواهد النحوية في جواز النصب والرفع لكلمة هُلْك الثانية، إما بجعلها خبر كان، فتكون هلك الأولى بدلاً من قيس، أو خبر المبتدأ هلكُ الأولى، والجملة الإسمية من المبتدأ وخبره في محل نصب خبر كان، وإن نصبها فهي خبر كان.
وهو عَبْدَة بن يزيد (الطبيب) بن عمرو بن علي (ت نحو ٢٥ هـ) من تميم: شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام. كان أسود، شجاعاً. شهد الفتوح، وقتال الفرس مع المثنى بن حارثة، والنعمان بن مقرن، بالمدائن وغيرها. وكانت له في ذلك آثار مشهودة، وله فيها شعر. وهو صاحب المرثية التي منها هذا البيت، يقال: إنه أرثى بيت قالته العرب، ا. هـ (انظر الأعلام للزركلي ٤/ ١٧٢).