[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن الدنيا تغش من استنصحها، وهذه معاشرة قبيحة، أن تكون مستنصحاً لمن يغشك، فإن هذا من أقبح الاغترار، فإذا أخبرك مخبرٌ ظاهره العدالة بأنه غاشٌّ لك لَزِمَك في ظاهر الحال وعند أهل العقول الاحترازُ منه، والحزم عنه، وقد أخبرنا عنها أنصحُ الناصحين، وأصدق الصادقين؛ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ الطاهرين، الذي قامت المعجزاتُ بصدقه، وظهرت الأعلام على صحة نبوته، فلْيُنزِلها العاقلُ منزلة الغاشِّين في الاستخفاف بها، والإعراض عنها، وقد جمعت مع هذه الخُلَّة القبيحة خِلالاً أُخَر، كلُّها كافية في وجوب بغضها، والإعراضِ عنها، والزهدِ فيها، والاستخفافِ بها، وأنها تُغْوي من أطاعها حتى تورده موارد الهلكة، حيث لا ينفعه نديم، ولا يدفع عنه حميم، وكيف وقد صدفته(١) عن الصراط المستقيم! وأوردته مَشْرَعة(٢) الجحيم، والعذاب الأليم! فلو أنها أغوته إلى بريَّةٍ بريئةٍ من الخير، خليَّةٍ من الماء والطعام، تيهاء مطموسة الأعلام؛ لكانت أكبر جناية، وأقبح نهاية؛ فكيف إذا أوردته ناراً حامية الوقود، بعيدة الخمود، ثقيلة القيود، فلا رُحِمَ من أطاعها، وظاهر سِطاعَها(٣).
  ومن خلالها الذميمةِ خَتْرُها(٤) لمن انقاد لها، فيا لها الويل والْأَلِيلُ(٥)! هل تراها أهلكت إلا من فعل معها ما يوجب رَعْيَ الْحُرْمَة؛ وحِفْظَ الذِّمَّة؛ فلأي معنى ينقاد لها العاقل، وقد حذَّره مِنْ خَتْرِها الرسول، وقام بصحة قوله الدليل، ثم أخبر # بأنَّ الفائز من أعرض عنها، وصرف وجهه إلى غيرها، وهي دار الآخرة التي إليها معاده، ومقرُّ وِساده، والهالك من هوى فيها، يريد الفائت عن الخير الميت الذكر في الصالحين، فلو كان من أكبر الملوك المتجبرين؛ لكان من أهلك الهالكين، وأضعف المستضعفين، وأيُّ هلاكٍ أعظمُ من الهُوِيّ فيها بالكليّة، والهبوط عن منازل الرحمة السوية، والدَّرَج العليّة.
(١) صَدَفَتْهُ عَنِ الصِّرَاطِ: أيْ صَرَفَتْهُ عَنْهُ وَصَدَّتْهُ، قاموس.
(٢) المَشْرَعةُ: الْمَواضِعُ الَّتِي يُنْحَدِر إِلَى الْمَاءِ مِنْهَا، (لسان العرب ٨/ ١٧٥).
(٣) السِّطاعُ: خَشَبة تُنصَّب وسَط الخِباء والرُّواقِ، وَقِيلَ: هُوَ عَمُودُ الْبَيْتِ، (لسان العرب ٨/ ١٥٥).
(٤) الخَتْرُ: شَبِيهٌ بالغَدْرِ وَالْخَدِيعَةِ؛ ... وَقِيلَ: هُوَ أَسوأُ الْغَدْرِ وأَقبَحُه، (لسان العرب ٤/ ٢٢٩).
(٥) الأَلِيلُ: هُو الْأنِينُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْإمَاُم فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الرَّابِعِ عَشَرَ، وهُوَ مَثَلٌ، يقال: لَهُ الوَيْل والأَلِيل.