[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  قوله #: طُوبَى لِعَبْدٍ اتَّقَى فِيهَا رَبَّهُ، وَنَاصَحَ نَفْسَهُ، وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ، وَأَخَّرَ شَهْوَتَهُ.
  طوبى شجرة في الجنة يستظل تحتها الفائزون، في الحديث: «إنَّ الرَّاكِبَ يَسِيرُ تَحْتَهَا خَمْسَمائةَ عامٍ لَا يَقْطَعُهَا» والعبد قد تقدم معناه. والاتقاء هو دفع الشرِّ بسترٍ أو حجاً(١). والرب هو المالك. والنصيحة هو رفع الخلل، ومنه سميت الإبرة مِنصحةً؛ لأن بها تُخاط شقوق الثوب، قال الراجز:
  وَرَبِّ كلِّ شَوْذَبيٍّ مُنْسَرِحْ ... مِنَ اللِّباسِ غَيْر جَرْدٍ ما نُصِحْ(٢)
  يريد القَسَم بالْمُحْرِم، فإنه لا يلبس المخيط. والتقديم نقيض التأخير. والتوبة الندم على الذنب والعزم على أن لا يعود إليه لأجل قبحه. والتأخير نقيض التقديم. والشهوة معروفة، وهي معنىً يقَوِّي الدواعي إلى نيل المشتهى.
  المَعْنَى: أخبر # أن طوبى مناخ الفائزين لمن اتقى في هذه الدنيا عذابَ ربه فيها وفي الأخرى بالأعمال الصالحة، إذ كل تِقاءٍ دونها لا يُتْقَى صاحبُه، ولا يُمنع جانبه، وناصح نفسَه بأن لا يتخذها قراراً، ولا يجعلها داراً، بل يتخذها ممرَّ سائرٍ، وسبيل عابرٍ، ومنهج متجرد للسلوك، لا يلوي على شيء فيها، ولا تسكن نفسه إلى رونقها، إنما همه قِوامُ صلبه، وبِلال حلقه، حتى ينتهي إلى غرضه من الدار التي أُعدت للمتقين عذابَ ربهم، الناصحين لأنفسهم، فحينئذ حط رَحْلَه، وثنى رجله، وقال كما قال الشاعر:
  فأَلْقَتْ عَصاها واستقَرَّ بها النَوى(٣) ... كما قَرَّ عَيْناً بالْإِيابِ الْمُسافِرُ
  وقدم توبته على عمله ليبني عمله على أصلٍ صحيح، وقرارٍ مكين، لأن التوبة تَرْحَض الأوزار جملة، فلا تغادر منها شيئاً، ولا نعلم في الطاعات - بالغة ما بلغت - كبيرةً غيرها، وذلك لعِظَم حق
(١) حجاً بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا: وهو السِّتْرُ والغِطَاءُ، (انظر النهاية: ١/ ٣٤٨).
(٢) الشَّوْذَبِيُّ: الطَّوِيلُ النَّحِيفُ، تمت، هامش الأصل. قال في تهذيب اللغة (٤/ ١٧٤): والْمُنْسَرِحُ: الخارِجُ من ثِيابِهِ. والجَرْدُ: الخَلِقُ مِنَ الثِّيَابِ. ومَا نُصِحَ: أَي مَا خِيطَ. ا. هـ.
(٣) النَّوَى: التَّحَوُّلُ من دارٍ إلى دارٍ. قاموس.