[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  الرب سبحانه، فكل ما عملنا واجتهدنا فهو صغير في حقه إلا التوبة؛ فإنه سبحانه أخبرنا بكُبْرها؛ لسعة جوده، ترغيباً لنا في فعلها والمبادرة بها، فعلى هذا تُقَدَّم بين يدي كل فعل، ويُتوَّج بها كل عمل، وتؤخر الشهوة إلى أن نقضيها في دار الآخرة، فأما في دار الدنيا فشهواتها منغَّصَة، ولذاتها مكدَّرة، فلا وجه للتأخير للشهوة إلا ارجاؤها إلى دار الآخرة، والإضراب عن سلوك أوديتها الوبية القاتلة، والتوقي لأفاعيها الخاتلة(١).
  قوله #: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْفِظَهُ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، فَيُصْبِحَ فِي بَطْنٍ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ، مُدْلَهِمَّةٍ ظَلْمَاءَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَسَنَةٍ، وَلَا يَنْقُصَ مِنْ سَيِّئَةٍ.
  اللفظ هو ما يُلقيه الإنسان من فيه، ومنه لفظ الكلام لخروجه من الفم. والموحشة الغبراء حفرة القبر. وبطنها وسطها. والْمُدْلَهِمُّ الأسْوَدُ. والظلماء تأكيدٌ لسوادها.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # بيَّن أن الواجب أن يتقي الإنسان ربه، وينصح نفسه، ويقدِّم توبته، ويؤخر شهوته، وهو ما تقدم شرحه؛ قبل أن تلْفِظه الدنيا إلى الآخرة، فشبه ابْنَ آدم مع الدنيا باللفيظ من الفم، كأنها مَضَغَتْه ثم لَفَظته، وهذه من غرائب الاستعارة، والملفوظ بمجرى العادة لا خير فيه، ولا يُلفَظ إلا ما لا يُنتفع به، فلما أخلد إليها مضَّت(٢) حلاوته، واشتفَّت طلَاوته(٣)، ثم لفظته لوجهه إلى بطن موحشة غبراء، ولا شك في ذلك. وأيُّ منزل وحشة أوحش من القبر، ومنزل غربة أغرب منه؟! فنسأل الله تعالى بحقه العظيم أن يؤنسنا فيه بالأعمال الصالحة، ويصلي على النبي وآله.
  قوله: مُدْلَهِمَّةٍ ظَلْمَاءَ، عائد على الحفرة، لا يستطيع أن يزيد في حَسَنة؛ لانقطاع التكليف، ولا ينقص من سيئة لأجل ذلك، وإنما هذا له في هذه الدار التي جعلها الله سبحانه ميداناً للسباق إلى
(١) خَتَلَهُ يَخْتُلُهُ ويَخْتِلُهُ خَتْلًا وخَتَلاناً وخَاتَلَهُ: خَدَعَهُ عَنْ غَفْلَةٍ، (لسان ١١/ ١٩٩).
(٢) في نسخة أخرى: مَصَّتْ، بالصَّاد. والْمَضُّ: الحُرْقةُ. مَضَّني الهَمُّ والحُزْنُ وَالْقَوْلُ يَمُضُّني مَضّاً ومَضِيضاً وأَمَضَّني: أَحْرَقَني وَشَقَّ عَلَيَّ. والهمُّ يَمُضُّ القلبَ أَي يُحْرِقُه. ا. هـ. (لسان العرب ٧/ ٢٣٣).
(٣) يقال اشْتَفَّتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ: إذا أَيْبَسَتْ وَرَقَهُ، تمت من هامش الأصل. وقال الأزهري في تهذيب اللغة (١١/ ١٩٥): اشْتَفَّ أَي شَرِبَ جَمِيع مَا فِي الْإِنَاء، والشُّفَافَةُ: آخِرُ مَا يَبْقى فِيهِ. ا. هـ. والطُّلاوَةُ، مُثلَّثةً: الحُسْنُ، والبَهْجَةُ، والقَبُولُ. ا. هـ. (لسان العرب ١٥/ ١٤).