[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  جَنته الواسعة، التي عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وسُوقاً لنَفاق الأعمال الصالحة، وبوار الأعمال المردودة الفاضحة، وليت أنها إذا رُدَّت جُعلت سُدىً؛ وإنَّما هي تُجعل على صاحبها وبالاً، وتسوق إليه نكالاً.
  وجعل الحفرة من الآخرة لأنها في حكمها من حيث أنها منزل لا يَنفع فيه العمل، ولا يغني الندم.
  قوله #: ثُمَّ يُنْشَرُ فَيُحْشَرُ، إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ يَدُومُ نَعِيمُهَا، أَوْ إِلَى نَارٍ لَا يَنْفَدُ عَذَابُهَا.
  النشر نقيض الطي، وهو هاهنا استعارة، كأن الميت كان مطويّاً بالتفريق فنُشر بالتلفيق. والحشر الجمع مع غيره. وقد تقدم الكلام في الجنة، ونعيمُها خيرُها. وكذلك الكلام في النار. وأضاف العذاب إليها لكونه فيها.
  أخبر ÷ وهو الصادق الخبر أن العبد يُنشر من قبره بعد طيه بالموت والبِلى، فيحشر عقيب ذلك، أي يساق إلى المحشر، وهو مجمع الخلق للحساب، فيصير بعد حشره إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفد عذابها. وإنما قال ذلك # لأنَّ الخلود لازم لأهل الدارين، أهل الجنة والنار، وبذلك يبطل قول المرجئة.
  وقد علمنا أن الحياة من أشهى ما يكون إلى النفوس، ولهذا فإنك تجد الملوك الكبار ينهزمون من الممالك الجليلة الأخطار إذا خافوا الموت وهم غانمون في أنفسهم، ولا يَعْتَدُّون بما فات، فما ظنك بحياة لا بؤس فيها ولا ضرّاء، ولا ظمأ ولا ضَحاء(١)، ولا شقاء ولا عناء، ظل بارد، ونعيم راكد.
  وكذلك قد علمنا أن الواحد من الناس إذا حبسه بعض الملوك في محبس مظلم، وضيَّق عليه في الطعام والشراب خرج إليه من جميع ما يملك، وعدَّ ذلك غنيمة! فكيف بمحبسٍ مهاده نار، وحيطانه نار، وسقفه نار، وماؤه نار، وعيشه نار؟! هذا العام، ويتخلل ذلك من أنواع العذاب وصنوفه ما نسأله تعالى صرفه عنَّا، ودفعه منَّا، بحقه العظيم، ويجعلنا وإياكم من المحشورين إلى دار النعيم، الفائزين بالنجاة من العذاب الأليم، والصلاة على محمد وآله والسلام.
(١) الضَّحاءُ، بالمَدِّ: إذا قَرُبَ انْتصافُ النَّهارِ، وبالضم والقَصْرِ: الشَّمْسُ. (القاموس المحيط: ١٣٠٤).