الحديث الأول
  ولطف دعائه، وحسن تأديبه، فقال #: كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، لَمَّا رأى # قِلَّةَ الاستعداد لنزوله صار كأنَّ النازل به الموت سوانا، والمعنيَّ به غيرنا، وأصل الكتاب إلزامُ الشيءِ الشيءَ وشدُّه فيه، حتى سمي الخرَّازُ كاتباً، وكذلك الكاتب لجمعه بين الحروف، وسُميت الكتيبةُ كتيبةً من اجتماع بعضها إلى بعض، وكتابته علينا الجمع بينه وبيننا بنزوله، ويحتمل أنْ يراد بذلك كتابته في اللوح المحفوظ، فما يكتب فيه إلا الواقع لا محالة؛ لكونه من قِبَلِ علَّام الغيوب، فَيُكتب فيه: يموت فلان بن فلان في وقت كذا وكذا، في بلد كذا وكذا، على حال كذا وكذا، وبسبب كذا وكذا، فلا يغادر من ذلك شيئاً، فيكون ذلك لُطفاً للملائكة $ ولمن علم به من المكلفين.
  قوله #: وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ.
  الحقُّ في أصل اللغة هو القطع الظاهر. والواجب هو الواقع، ومنه قولهم وجبت الشمس، وقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} - أي سقطت ووقعت - {فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج: ٣٦]، والحق هاهنا هو جميع ما فرض الله تعالى على عباده من فعلٍ أو تركٍ، والأفعال والتروك تنقسم، ولا وجه للتطويل بذكرها هاهنا، وهو وإن كان النفل حقّاً فقد خص رسول الله ÷ الواجب منه بقوله: وَجَب، إذِ النفل لا يجب في عرف الشريعة المشرفة، فهذا في تمييز الألفاظ.
  فأما المَعْنَى: فلما كان من وجب عليه حقٌّ تأهَّب لتأديته وشمَّر في أمره، وكنا فيما وجب علينا في حكم الغافلين شبَّهَ حالنا # بحال من لم يجب عليه واجب، وقد تقرر في العقول قبح ترك الواجب، لا سيما إذا كان الذي له الحق قادراً على استيفائه، منعِماً على من عليه الحق بالنعم الجليلة الأخطار، حكيماً عادلاً عظيم الشأن لا يمكن الغِنى عنه في حال من الأحوال ولا وقت من الأوقات؛ فإنَّ الغفلة عن القيام بحقه - والحال هذه - تَقْبُحُ جدّاً وتتناهى في القبح، ولا يختلف في قبحها العقلاء، فنسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من الغافلين عن القيام بما وجب علينا، الناسين لما أسْدى الحكيم سبحانه إلينا، وأشهد أنه ÷ دعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث خلط نفسه في الخطاب بأنفسنا، وحالُه في ذلك مخالفٌ لحالنا.