الحديث الأول
  معاودته بالأرباح عن كثب، فإنه لا يكترث لذلك في مجرى العادة، فلما كانت حالنا - وبجهل كان ذلك منا - كذلك شبهنا رسول الله ÷ بالذي يشيِّع السَّفْر السريع الإياب، وخلط نفسه معنا لمثل ما قدمنا في أول الخبر، وإنما كان ذلك كذلك لأنا لو قطعنا بفراقهم إلى يوم التناد وحضور الأشهاد وأنها لا رِدَّةَ، فإنما هي سعادة أو شقاوة؛ لتأهبنا لمثل حالهم، وتزودنا لمرجعهم ومآلهم.
  قوله #: نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ، وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ.
  التَّبْوِئَةُ هو الإنزال، يقول قائلهم: بوأته كما يقول أنزلته وأسكنته. والأجداث واحدها جَدَثٌ، وهي القبور، وقد يقال جدف بالفاء. والأكل معروف. والتراث تَرِكَةُ الميت، وكان الأصل وُرَاثٌ، فأبدلت منها التاء لقرب بعضهما من بعض في الخروج، وكثيراً ما يوجد ذلك في كلامهم.
  المَعْنَى: أخبَرَ ÷ بحالنا بعد موتانا، والأكل للتراث وإنْ كان مباحاً لا يتعلق به نهي، فالغفلة عن الاستعداد لحضوره، وعند الاشتغال بأنواع الأكل من الخضم والقضم واللَّم(١)، بالكُلِّ تقع الغفلة عن الاستعداد.
  قوله ÷: كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهَمُ.
  المخلَّدون الباقون الدائمون أبداً، وأصله الملازمة، ومنه الخُلد الذي هو القُرْطُ، وقيل في قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ١٧}[الواقعة] أي مقرَّطون، وهو ما يُلبس في الأذن، وأحسب أنَّ أصله من السِّوار الذي يلازم اليد أبداً ما دامت، فلما كان الموت موضوعاً للاعتبار، بل هو أقوى ما خَوَّفنا به الجبار، وزهَّدنا في هذه الدار، وكُنَّا مع تقديم الموتى وتشييعهم غافلين عن الاستعداد كُنَّا كمن طمِع في الخلود أبداً، ولم يُقدِّم بين يديه إلى ربه ø يداً.
  قوله #: نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ.
  الواعظة هي الحادثة الذي يُتَّعَظُ بها، ومعنى الاتِّعاظ والاعتبار واحدٌ، وهو الازدجار عن الفعل مع خضوع وهيبة، وقد تكون الواعظة فعلاً وتكون قولاً، فالفعل مثل ما أنزل الله تعالى
(١) قال في هامش الأصل: قال #: الخضم لِمَا كان رطباً، والقضم لما كان يابساً، واللَّمُّ الأكل بكل الفم. (انظر لسان العرب ١٢/ ٤٨٧) والقاموس المحيط: (خضم) (ص ١١٠٣)، و (قضم) (ص ١١٥٠).