حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثامن والثلاثون

صفحة 371 - الجزء 1

  تصرف الإنسان وقبضه وبسطه وعطائه ومنعه باليدين، وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}⁣[الحج: ١٠] وإن كان يجوز أن تكون المعصية وقعت بغير اليدين، والمال الآن في أيدينا إذ أيدينا مطلقة، وزاد # في الأمر تزهيداً، وفي الحجة تأكيداً بقوله: قَبْلَ أَنْ يُخَلِّفَهُ لِمَنْ يَسْعَدُ بِإِنْفَاقِه، إما لغة وإما شرعاً، فمن أنفقه في الدنيا وأغراضها فهو سعيد عند أهلها، ومن أنفقه في وجوه البر لله سبحانه فهو السعيد به حقّاً.

  وشقاؤه بجمعه واحتكاره هو تعبه ونصبه في تحصيله وضم فضوله، هذه الشقاوة الأولى، وهي أهون الشقاوتين مشقةً، وأقربهما شُقّةً، والشقاوة الأخرى وهي الداهية الكبرى أن يمنعه من حقوق الله سبحانه، ويجمعه محتكراً له جاهلاً بانتقاله أو الانتقال عنه، قد أعمى حبُّه قلبَه، وأعشى وُدُّهُ بصرَه، فصار لا يسمع هدايته، ولا يبصر رشده، حتى جاءه الموت وهذه حاله فأُخِذ بعنقه، فرام الإنفاق فمنعه، وطلب التلكي⁣(⁣١) في طريقه فدفعه، وأضجعه فضغطه ضغطةً، وكشطه كشطة، ففرق بين جسده وروحه، وأورده دار البوار فقيراً عقيراً، لا يجد مُعيناً ولا نصيراً.

  هذا وقد ترك مجموعه خلف طهره، فأخذه وارثه غير شاكر ولا ذاكر، فإنْ شكر وذكر فغير دافع ولا مانع، فأنفقه بِداراً، ولم يدخر منه درهماً ولا ديناراً، وذلك لِهُونِه عليه وصغره لديه، فإن قصد به منافع دنياه سعد به عند أهل الدنيا مدة حياته، وإن قصد به أخراه وتحرى رضا مولاه فاز بقِدْح القامرين، وَوُفِّي أجر الشاكرين.

  جعلنا الله وإياكم ممن رغب في دار الآخرة وسعى لها سعيها فطلبها، وزهد في الدنيا فكفأها وقلبها، وردها على عقبها، والصلاة على محمد وآله.


(١) هكذا في النسخ، وقال في هامش الأصل: أحْسِبُهُ البُطْؤ في السَّيْر، ا. هـ.