حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثامن والثلاثون

صفحة 373 - الجزء 1

  الارتحال نقيض الحلول. والإدبار نقيض الإقبال، وأصل ذلك من تَوْلِية الدبر. والتحمل هو الإقلال للشيء والاستقلال به. والإقبال نقيض الإدبار.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أخبر - وهو صادق الخبر فما عذرنا في التمسك بحبل الغرر - أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة فكيف يُعمل لها مع إدبارها عمل المستقبلين، أم كيف يركن إليها الحاذر الفطين⁣(⁣١)؟! وقد خلت لنا فيها الْمَثُلات بأبنائها الفارطين⁣(⁣٢)، ولقد عاينَّا من إدبارها عن المقبلين عليها رؤية عين اليقين، فكم لها من ضريب وطعين، وطريح ودفين، أبدت له محاسنها الفتانة، وتدثرت بالعفة والأمانة، حتى إذا تمكنت مخالب حبها في شَغاف قلبه، وألَبَّ⁣(⁣٣) وِدُّهَا بِلُبِّه؛ قلبت له ظهر الْمِجَن، وجرعته كؤوس المحن، فأضرمت عليه نيران الفتن، وقلبته لوجهه حيران، وأهبطه العشاء منها على سِرْحان⁣(⁣٤)، فحَانَ فيمن حَانَ⁣(⁣٥)، ودِينَ بما دان، وقيل كان وما كان، فلم تغنه الأحزان، ولا تدفع عنه الأشجان.

  وأما الآخرة وتحمُّلها مقبلة فهل نجَّزَ لها العامل عمله؟ أم هو على يقين من المهلة؟ ما قوله إن أرهقته العجلة وكل أعمال الصلاح مهملة، فحار مِنْ فَرْط السؤال والوله، صار عليه حسرةً ما كان له، فرحم الله عبداً استقبلها بما يُستقبل به الوافدون من البشاشة، وهاش إليها مسرعاً من الهشاشة⁣(⁣٦)، واتقى بحسن ما قدَّم لها وإليها، قد حَمَلَتْ عنه ما حَمَلَ عليها.


(١) فَطِينٌ وفَطِنٌ وَفَطْنٌ وَفَطُنٌ وفَاطِنٌ وفَطُونٌ، والجمع: فُطْنٌ، والفِطْنَةُ، بالكسْر: الحِذْقُ، فَطنَ به، و ... إليه، و ... له (كفرِحَ ونَصَرَ وكرُمَ)، فَطْناً، مثلثةً وبالتحريكِ، وبضمتين، وفُطونَةً وفَطانَةً وفَطانِيَةً، (القاموس: ١٢٢٢).

(٢) الفارِطُ: الْمُتَقَدِّمُ السَّابِقُ، (لسان العرب ٧/ ٣٦٦).

(٣) الشَّغَافُ: غِلَافُ الْقَلْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}⁣[يوسف: ٣٠]، أَيْ أَوْصَلَ الْحُبَّ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهَا، تمت (مجمل اللغة لابن فارس: ٥٠٦).

ألَبَّ: أقامَ، ومنه: لَبَّيْكَ، أي: أنا مُقيمٌ على طاعَتك إلْباباً بَعْدَ إلْبابٍ وإجابَةٍ، أو مَعْناهُ: اتِّجَاهي وقَصْدِي لَكَ، واللُّبُّ: هو الْعَقْلُ، والْقَلْبُ والْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ. (انظر القاموس المحيط: ١٣٣).

(٤) السِّرْحَانُ: الذِّئْبُ، وهو مثل يضْرب للْحَاجة تُؤدِّي صَاحبهَا إِلَى التّلف، وَأَصله أَن رجلا خرج يتلمس الْعشَاء فَوَقع على ذئب فأكله، انظر جمهرة الأمثال (١/ ٥١٤).

(٥) حَانَ حَيْناً، بفتح الحاء: أي وقع في الهلاك، تمت ضياء، هامش (أ).

(٦) الهَشَاشةُ: الارْتِياحُ والخِفَّة لِلْمَعْرُوفِ. (لسان العرب ٦/ ٣٦٤).