الحديث الأربعون
  النفس من الممالك الكبار، ويجتهد الطير في تحصين الوُكُنات(١) والأوكار، فإذا كان مَعَنا عليها هذه الضِّنَّة وقد كَمُلَتْ علينا بالتمكين من نجاتها الْمِنَّةُ فما المانع من تحصينها من عذاب النار، ومواقع سطوة الجبار، ولنبذأ(٢) بالذهول عن الميت اشتغالاً بأمر نفوسنا كما فعل الصالحون.
  في الرواية أنَّ علي بن الحسين # مات له ولد فلم يُسْمَع في بيته بكاء، فقيل له: يا ابن رسول الله؛ لم لا تبكون على ميتكم؟! فقال: (أمْرٌ كُنَّا نَتَوَقَّعُهُ، فَلَمَّا نَزَلَ لَمْ نَعْبَأْ بِهِ).
  ومثل ذلك الرواية عن زيد بن علي # مات له ولدٌ، فكتب إليه صديق له يُعَزِّيه عن ولده، فقلب الورقة وكتب على ظهرها: (أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّا أمواتٌ أبْناءُ أمْوَاتٍ آباءُ أمواتٍ، فيا عَجَباً من مَيِّتٍ يُعَزِّي مَيِّتاً عن مَيِّتٍ والسَّلام).
  أفلست ترى هؤلاء سلام الله عليهم أجمعين قد صاروا كأنهم شاهدوا مكان الْمَلَك وسمعوا كلامه فذهلوا عن ميتهم، واستشعروا البكاء على أنفسهم، فلم يغتروا كما اغتر غيرهم.
  قوله #: حَتَّى إِذَا حُمِلَ الْمَيِّتُ عَلَى نَعْشِهِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوْقَ النَّعْشِ وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَهْلِي، وَيَا وَلَدِي، لَا تَلْعَبَنَّ بِكُمُ الدُّنْيَا كَمَا لَعِبَتْ بِي.
  الحَمْل والرَّحل نقيض الحَطِّ والحِلِّ. والنعش هو الخُشُبُ التي يُحمل عليها الميت، وأصل النعش الرَّفْع، فلما كان الميت يُرْفَع على رقاب الرجال سُميت الآلة نعشاً، والميت نعيشاً ومنعوشاً، كما تقول طعيناً ومطعوناً، وأمثاله كثير، ومنه الانتعاش في العثرة.
  ولما حضرت فاطمةَ بنتَ رسول الله ÷ الوفاةُ بكت، فقالت لها أسماء بنت عُميس(٣): مالك؟ قالت: أكره أن ينظر الرجال إلى شخصي على النعش، فقالت: إني أعمل
(١) الوُكُنات بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِهَا: جَمْعُ وُكْنَة، بِالسُّكُونِ، وَهِيَ عُشُّ الطَّائِرِ ووَكْرُه، (لسان ١٣/ ٤٥٣).
(٢) بَذُؤَ الرَّجُلُ، بَذِيٌّ أي مُحْتَقَرٌ، بَذَأَهُ أي عَابَه، وَبَذَأَتْهُ عَيْنِي إذا لم تَقْبَلْه، تمت ضياء، هامش (أ).
(٣) أسماء بنت عُمَيْس (بضم المهملة الأولى) الخَثْعَمِيَّة، أسلمت مع زوجها جعفرٍ #، وهاجرت الهجرتين، وتزوجها بعد جعفرٍ: أبو بكر، فولدت له محمداً، ثم تزوجها أمير المؤمنين # بعد موت فاطمة & فولدت له يحيى، وهي القابلة للحسنين $؛ وكانت من خواص أهل البيت $، تُوفيت بعد علي #. روى عنها أولادها: عبدالله، وعون، ابنا جعفر بن أبي طالب، =