الحديث الأول
  قوله #: وَخَالَطَ أَهْلَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ.
  المخالطة معروفة، ومعنى ذلك أن لا يرفع نفسه عن أحد من المسلمين، ومعنى أهل الذلة هاهنا هم ضَعَفَةُ المسلمين، وأصل الذلة في الإبل، يقال ناقة ذَلول وجَمَل ذَلول، للذكر والأنثى بلفظ واحد. والمسكنة هي نهاية الحاجة، وهي مفعَلة من السكون، فكأنَّ الحاجة تحمل صاحبها على سكون الجوارح فلا يستطيع حراكاً.
  وقد روي أن الحسين بن علي # مَرَّ بجماعة من المساكين وهم يأكلون خبزاً، فقال #: (لولا أن خبزكم صدقة لأكلتُ معكم) ثم استنهضهم # إلى منزله، فأمر لهم بطعام، فأكلوا وأكل معهم، فسأله أهله عنهم، فقال: هم جماعة من إخواني، ودهنهم وفرَّق فيهم دراهمَ، وذلك مأخوذ من رسول الله ÷، فإنَّ المعروف منه أنه كان يجلس بين ضعفة أصحابه يعلمهم معالم الدين، ويزهدهم في الدنيا، ويصغر عندهم البلاء، حتى قال له عيينة بن حصن الفزاري(١): يا رسول الله؛ إنك رسول الله، وإنَّ العرب أهلُ أنَفَة ورئاسة، فإذا رأوك مع هؤلاء المساكين نَفَرَتْ نفوسهم عن الدين فلم يقبلوا، فلو نحيت هؤلاء عن مجلسك، فإنْ كان لا بد منهم فاجعل لهم مجلساً ولنا مجلساً، فكاد كلامه يؤثر في النبي ÷ في أمر المجلس من حيث زخرفة عدو الله بالتقريب إلى الدين لكبار الناس، فانتظرَ الوحيَ من الله تعالى، فنزل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}[الكهف: ٢٨] وهو عيينة، وأغفلنا قلبه عقوبة له، إذ لا يجوز غير ذلك، وقد كان منافقاً في حياة النبي ÷ أحمقَ مطاعاً، وبعد وفاته كان كذلك، لأنه كان من أقوى أسباب معاوية لعنه الله، وبمعاوية انطمست رسوم الدين وظهرت أعلام الظلال.
(١) عُيَيْنَة بن حِصْن الفِزاري: من المؤلفة قلوبهم، ومن الأعراب الجفاة، وكان ممن ارتد وتبع طليحة الأسدي، وقاتل معه، فأخذ أسيرًا، وحمل إِلَى أَبِي بكر، فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله؛ أكفرت بعد إيمانك؟! فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين، فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه، توفي أيام عثمان، (أسد الغابة ٤/ ٣١٨).