الحديث الأول
  قوله #: طُوبَى لِمَنْ ذَلَّتْ نَفْسُهُ، وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ، وَصَلُحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَعَزَلَ عَن النَّاسِ شَرَّهُ.
  طوبى قد تقدم الكلام في معناها، والمراد بذِلَّةِ النفوس هاهنا تواضُعها وانقيادُها لله سبحانه لضعفة عباده المؤمنين؛ تسليماً لأمره وإجلالاً لعظمته، خلافاً لما عليه الجبابرة الظلمة من غمص أولياء الله واحتقار عباده، وقد روينا أن أمير المؤمنين # كان في السوق يمشي، فأصابه المطر، فالتجأ إلى ظلة عَطَّارٍ ليستظل فيها من المطر، فوثب عليه العطَّارُ - وهو لا يعرفه - يدفعه في صدره، وأمير المؤمنين # يقول له: ويحك إنما أستظل من المطر، فصاح الناس به: ويحك ألست تعرف هذا! أمير المؤمنين! فاعتذر، فما أعاد عليه إلا خيراً.
  وكذلك روينا أنه # دخل السوق يشتري تمراً، فقال لتمار: كيف تبيع تمرك يا تمار؟ فقال كذا وكذا، شيئاً لم يرضه، ثم قال لآخر كذلك، فقال شيئاً لم يرضه، فقال لآخر كذلك، فقال له شيئاً رضيه، فقال: زِنْ وأَرْجِح، فإنا كذلك نفعل معشر أهل بيت النبوة، فقال التمار: يا أمير المؤمنين غلامي يحمله معك، فقال #: لا؛ لا يأكله الحسن والحسين ابنا رسول الله ÷ ويحمله غلامك، سمعت رسولَ الله ÷ يقول: «مَنْ رَقَعَ ثَوْبَهُ وَحَلَبَ شَاتَهُ وَحَمَلَ بِضَاعَتَهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكِبْرِ» وأمثال هذا من أهل بيت النبوة $ وأتباعهم الصالحين كثير، فالواجب على العاقل تذليل نفسه لله تعالى في مقامٍ لِلْعِزّ فيه وللذل تأثيرٌ عظيم، فأما هذه الدنيا فعزُّها ضلالٌ وذُلُّهَا محال، وكلُّ شيء فيها إلى نفاد وزوال.
  وحسن الخليقة معروف، وهو لِين الأعطاف(١) ووطأة الأكناف(٢)، وهذا الدين مبني على حسن الخلق، وقد اختُص نبينا ÷ من ذلك بما لم يكن لغيره، فقال فيه تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ٤}[القلم] وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: ١٥٩].
(١) الأعْطافُ: الْجَوَانِبُ، قال في مقاييس اللغة (٤/ ٣٥١): يُقَالُ لِلْجَانِبَيْنِ الْعِطْفَانِ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمِيلُ عَلَيْهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ثَنَى عِطْفَهُ، إِذَا أَعْرَضَ عَنْكَ وَجَفَاكَ.
(٢) قال في النهاية (٥/ ٢٠١): (.. الْمُوَطَّأُونَ أكْنافاً) هَذَا مَثَل، وحقيقَتُه مِنَ التَّوْطِئَةِ، وَهِيَ التَّمهيد والتَّذليل. وَفِرَاشٌ وَطِيءٌ: لَا يُؤذِي جَنْبَ النَّائم. والأكْنافُ: الجَوانِب. أرادَ الَّذِينَ جوانِبُهم وَطِيئَةٌ، يتمكَّن فِيهَا مَن يُصاحِبُهم وَلَا يَتأذَّى.