حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الأول

صفحة 44 - الجزء 1

  الصلاح في أصل اللغة هو السلامة من الآفات، وهو نقيض الفساد في كلامهم، والسريرة باطنة الإنسان، وصلاحها أنْ لا يكون فيها غِشٌّ ولا فساد، وهي عقدة ضمير قلب الإنسان، وأصل السّرِّ الشيء الغامض الذي لا يكاد يتجلى، من ذلك أسِرَّةُ المسائل، ومنه سُرارُ الوادي، وسُرُّ العود، ويسمى السرير سريراً لأنه لا يكون إلا من باطن الحُجُب مكنوناً، لأنه مُبَوَّأُ الملوك ومستقر أهل الرفاهية.

  وَمَعْنَى ذَلكَ: أن يستوي سرُّ المؤمن وعلَنُه، وإقباله وإدباره، وغيبه ومشهده، بخلاف الفاسق والكافر، فإنَّ حالهما بالضد من ذلك، وقد قال رسول الله ÷: «بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ لَهُ وَجْهَانِ، يُقْبِلُ بِوَاحِدٍ وَيُدْبِرُ بِآخَرَ».

  قوله #: وَعَزَلَ عَن النَّاسِ شَرَّهُ.

  أصل الشرِّ ما تكرهه النفوس وتنفر عنه، ثم قد صار بعرف الشرع ما تكرهه القلوب على وجه مخصوص وإن كان مشتهى؛ لكونه مؤدِّياً إلى العذاب العظيم الذي تنفر عنه النفوس، وتجتويه⁣(⁣١) القلوب، فجميع المشتهيات المحظورة عند أهل الشرع من أعظم الشرور.

  فمعنى ذلك أن يعزل عن الناس ما تكرهه نفوسهم وتنفر عنه قلوبهم من أفعاله وأقواله.

  قوله #: طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِه، وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَم تَسْتَهْوِهِ الْبِدْعَةُ.

  قد تقدم معنى طوبى وكذلك معنى الإنفاق. والفضل: هو ما زاد على الحاجة، وأحسب أصل ذلك مأخوذ من خِطام الراحلة، فإنَّ ما زاد على الواصل من اليد إلى رأس الراحلة يسمى فضلاً، وقد كان التعبد في بَدْءِ الإسلام وَرَدَ بإنفاق الفضل، وهو ما زاد على كفاية الإنسان وعياله وجب عليه إنفاقه في سبيل الله تعالى، وعلى ذلك حُمل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}⁣[البقرة: ٢١٩] والعفو والفضل معناهما واحد، وهو الزائد على قدر الحاجة، ثم نسخ ذلك بآية الصدقة، فأما في هذا الخبر فمعناه الندب والاستحباب، فإذاً المنسوخُ الوجوبُ، كما يقال في صيام يوم عاشوراء، وقد كان الصالحون يتجاوزون هذه الرتبة إلى الإيثار على النفس


(١) تَجْتَوِيهِ: تَكْرَهُهُ، جَوِيَ الشيءَ جَوًى واجْتواه: كَرِهَهُ. (انظر لسان العرب: ١٤/ ١٥٧).