حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الأول

صفحة 45 - الجزء 1

  والولد، فمدحهم الله تعالى على ذلك بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}⁣[الحشر: ٩] وهذه الآية نزلت في رجل من الأنصار آثر على نفسه وأولاده، فمدحه الله تعالى وأهلَه بذلك، وهي عامة فيمن فعل مثل ما فعله، ففائدة اللفظ من هذا الخبر الحث والندب إلى إنفاق الفضل من المال، وقد قال رسول الله ÷ في مثل ذلك: «قدِّمْ مالَكَ أَمامَكَ يَسُرَّكَ اللَّحَاقُ بِهِ»⁣(⁣١).

  قوله #: وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ.

  معناه على نحو ما تقدم وهو نقيضه، لأن ذلك في الإنفاق وهذا في الإمساك، والفضل من القول هو ما زاد على ما يُعْنِي المتكلمَ ويحتاج إليه ولا يلجأ إلى النطق به، فأما ما زاد على هذا القدر يكون فضلاً من الكلام، تركهُ أصلحُ من فعله، وربما يجب في بعض الأوقات، والآثارُ فيما هذه حاله كثيرةٌ، من ذلك أنَّ لقمان الحكيم # كان في بعض مقاماته ذات يوم وهو ينطق بالحكمة والناس محدقون به يأخذون من كلامه، فجاء رجل من أعداء الحكمة قد غاظه ذلك يريد نقصه #، فقال له: أنت لقمان عبد آل فلان الذي كنت ترعى لهم الحُمُرَ، فقال #: أنا ذلك الرجل، وكان # في أول الأمر عبداً حبشيّاً، فلما ظهرت حكمته أعتقه مولاه في قصة طويلة، فقال له عدو الحكمة: ما بلغ بك هذه المنزلة؟ فقال له #: (تَرْكِي مَا لَا يُعْنِينِي) فصارت نادرة على ذلك الرجل، ودُوِّنت في مهاريق⁣(⁣٢) الحكمة، وسمع بعضُ الحكماء رجلاً يكثر الكلام، فقال له: يا هذا إنَّ الحكيم جل وعلا جعل لنا أذنين اثنتين ولساناً واحداً لنسمع ضعفي ما نتكلم به، وقال نبينا ÷: «رَحِمَ اللهُ عَبْداً تَكَلَّمَ فَغَنِمَ أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ .....».

  وسنذكر الحديث⁣(⁣٣) بطوله فيما بعد إن شاء الله سبحانه.


(١) هو جزء من الحديث السابع والثلاثين من هذه الأربعين.

(٢) الْمَهَارِيقُ: جَمْعُ مُهْرَقٍ، والْمُهْرَقُ الصَّحِيفَةُ، تمت ضياء، هامش (أ).

(٣) هو الحديث التاسع، ورويت هذه القطعة مفردة في شعب الإيمان للبيهقي (٧/ ١٧) برقم (٤٥٨٥) ومسند الشهاب للقضاعي (١/ ٣٣٨) برقم (٥٨١).