[القرآن]
  الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً مِنْ ذِي حُجَّةٍ قَالَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا مِنْ بَعْدِي أَبَداً؛ كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، إنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ نَبَّأَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الْحَوْضَ».
  ومعنى قوله #: وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ.
  قد قدمنا معنى الجعل في أصل اللغة، والمراد به هاهنا أن ينبذ حكمَه وراء ظَهْرِهِ، فلا يُحَلِّلُ حلالَه، ولا يُحرِّمُ حرامَه، ولا يقوم بفرائضه، ولا يلتزم أحكامَه، ولا يتدبر معانيه، ولا يُعَزِّرُ(١) مناهيه، فهو لا محالة يسوقُهُ - والحال هذه - إلى النار، وأصلُ السَّوْقِ في البهائم، وهو معروف، وذلك أنَّ البهيمة ذليلة في جنْبِ السائق، فكذلك حكمُ من نبذ القرآن وعطَّلَ أحكامَه؛ لأنه ضيَّعَ حُجَّةَ الله عليه، وقد روينا عن النبي ÷ أنه قال: «لَـ الزَّبانِيَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى حَمَلَةِ الْقُرْآنِ أَسْرَعُ مِنْهُمْ إِلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالنِّيرَانِ، فَيَقُولُونَ: يَارَبِّ سُورِعَ إلَيْنَا؟! بُدِئَ بِنَا؟! فَيَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ، فَلِذَلِكَ يُسَاقُونَ سَوْقاً شَدِيداً وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيداً» عصمنا الله من مثل حالهم، وأعاذنا من مرجعهم ومآلهم.
  قوله #: هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ إِلَى خَيْرِ سَبِيلٍ.
  هذا عائد إلى القرآن الكريم، ولا شك أنه كذلك، ولِمَ لا يكون كذلك وهو الذي عجز عن الإتيان بمثله الخلق، وعجب منه أهل البصائر من الجن: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ١ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}[الجن] وأيُّ هادٍ أهدى، وأي شيء أعجب منه وهو على سَعته وطوله وتَنوُّع فصوله في غاية الفصاحة، ومنتهى البلاغة والبراعة، لا يستطيع الشاعر الْمُفْلِق(٢)، ولا الخطيب الْمِصْقَع، والمترسِّل الْمُنَمِّق، والقائل المتشدِّق أن يأتي بمثل فصلٍ من فصوله.
(١) التَّعْزِيرُ: التَّوْقِيرُ وَالتَّعْظِيمُ. وَهُوَ أَيْضًا التَّأْدِيبُ (مختار الصحاح ٢٠٧) ولعله هنا بمعنى عدم تعظيم وتهيب اقتراف المناهي وارتكابها.
(٢) أَفْلَقَ الرَّجُلُ إذا أتى بالْفِلْقِ وهو العجيب، ومنه شاعر مُفْلِق، تمت ضياء، هامش (أ).