الدعامة في الإمامة،

يحيى بن الحسين الهاروني (الإمام أبو طالب) (المتوفى: 424 هـ)

[سبب ترك أمير المؤمنين لمحاربة منازعيه]

صفحة 54 - الجزء 1

  الجواب: يقال لهم قد أظهر # مباينتهم، وترك الرضا بفعلهم على قدر الإمكان، وبحسب الأوقات واختلاف الأحوال، فأظهر ذلك في الأول في التأخير عن البيعة مدة طويلة، لأن الناس مع اختلافهم في قدر المدة لم يختلفوا في تأخيره # زماناً طويلاً، والمعلوم من حاله # أنه كان سباقاً إلى الخيرات، وغير متوان فيها، ولما بويع عمر تأخر أيضاً حتى دعي، وحكي في هذا الباب ما حكي، فكان # يظهر المخالفة والمباينة في تلك الحال بالتأخر عن البيعة مرة، وبالإعراض أخرى، إذ لم يمكنه في ذلك الوقت أكثر من ذلك.

  فأما إنكاره # على عثمان: فتصريحه بالمخالفة - لما نفى أبا ذر رحمة الله عليه وأمره بأن لا يُشَيَّعَ، وأقدم على سائر الأحداث التي أنكرها المسلمون، أوضح من أن يحتاج إلى ذكرها، ثم زاد # في الأمر حتى أقام الحد على الوليد بن عقبة لما أمتنع هو من إقامة الحد عليه، وقال: (لا يضيع لله حد وأنا حاضر).

  والذي يبين ما ذكرناه من أنه # كان يراعي - في إظهاره مخالفة القوم والنكير عليهم - الإمكان: أنه # كان يرتب ذلك بحسب اختلاف الأحوال، فلما كان القوم من قبل أقوى وأظهر، وميل الناس إليهم أكثر، وعدد المتابعين لهم أوفر، كان # يقتصر في إظهار النكير على التأخر عن البيعة، والإعراض في بعض الأوقات.

  وفي أيام عثمان لما انحط أمره وأقدم على الأحداث التي أنكرها المسلمون عليه، وانحرف عنه أكثر أصحابه، واستخفوا بسيرته وخالفه أعيانهم ووجوههم ونازعوه، كعبدالله بن مسعود، وعمار بن ياسر رحمة الله عليهما، واستوحش منه كبار الناس كطلحة، وعبدالرحمن بن عوف، ووجد # في النكير عليه فرصة، فكان يواقفه ويرد عليه، ويجبهه في كثير من الأوقات بما يسوؤه، حتى أنه # كان ربما ينفث بما في نفسه في هذه الأيام على المتقدمين، فيقول: (ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله ÷)، ويقول: (متى وقع الشك في مع الأول)، إلى ما يجري هذا المجرى، وهذه الجملة تبين ما قلنا أنه # لم يزل منكراً لأمر القوم، ولكنه كان يرتب إظهار ذلك على حسب اختلاف الأوقات في التمكن.