الدعامة في الإمامة،

يحيى بن الحسين الهاروني (الإمام أبو طالب) (المتوفى: 424 هـ)

[اجتماع خصال الفضل في علي # وتفرقها في غيره]

صفحة 96 - الجزء 1

  ووضع الأمور في مواضعها، وكذلك كان المتولون قبله الأمر يستشيرونه ويرجعون إلى رأيه في الحوادث، وكالسخاء و كثرة الإنفاق في الوجوه التي يتقرب بها إلى الله تعالى، لا يدفع هذه الجملة دافع، ولا يجحدها جاحد، وليس هكذا حال سائر الصحابة لأنك إذا تأملت أحوالهم علمت أن من يوصف منهم بالعلم والتقدم فيه لا يوصف بالشجاعة وعظم العناء في الجهاد، ومن يوصف بالشجاعة لا يوصف بالتقدم في العلم والزهد وقلة الرغبة في الدنيا، ومن يوصف بجودة الرأي وحسن السياسات لا يوصف بمساواته # في العلم ومباشرته للجهاد ونكايته للكفار، فإذا كان الأمر على ما وصفنا فقد بان أنه # كان قد اجتمع فيه من خصال الفضل ما تفرق في غيره.

  وليس لأحد أن يعترض ما قلناه بأن اتفاق غيره على رسول الله صلى الله عليه وآله كان أكثر من اتفاقه، لأنه لم يكونا سيين، لأن اتفاقه # وقع على وجه من العِظَم لا يجوز أن يساويه اتفاق غيره، لأن فضل الإنفاق لا يعتبر بكثرته، وإنما بالوجه الذي وقع عليه، وهو كون المنفق والمنفق عليه على صفة مخصوصة، وإذا ثبت هذا وعلمنا من حاله # أنه كان ينفق القدر الذي كان يتمكن منه مع شدة حاجته إليه فيؤثر التقرب إلى الله تعالى على منافع نفسه، وجب أن يكون إنفاقه أعظم من إنفاق من أنفق عن يَسَار وَسَعَةِ حال.

  وقد روي من تحمله # الشدائد في هذا الباب ما لا يقوى عليه إلا مثله، فروي أنه وقف في بعض الأوقات على شدة حال رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الطعام فأكرى نفسه من يهودي على شيء من التمر ويحمل له، ثم حمل التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

  وروي أنه لما نزل الأمر بتقديم الصدقة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكلمه غيره، وأنه كلمه ثلاث مرات، وكان يقدم الصدقة في كل مرة إلى أن نزل النسخ.

  وروي أنه لم يفطر وبات جائعاً مؤثراً بطعامه المساكين واليتيم والأسير، فنزل {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}⁣[الانسان: ٨ - ٩]، ولو تقصينا ما روي من آثاره # في هذا الباب لخرجنا عن الغرض، وشهرة الحال فيها ما يغني ويكفي.