الخطبة الثانية
  فالكيِّسُ من دانَ نفسَه، وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، ومن سألَ عن أمورِ دينِه، وبحث عن الحقِّ وأهلِه، فليس كلُّ مَن دعا فهو على حقٍّ، هناك المخطئُ والمصيبُ، وهناك المحقُّ والمبطلُ، وهناك المبتدعُ والمتسننُ، هناك من يدعو إلى اللهِ، وهناك من يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
  إنها نيفٌ وسبعون فرقةً كلها هالكة إلا فرقة، ابحث عن هذه الفرقةِ واسأل عن دينِك حتى يُقالَ إنك مجنونٌ، ولا تغتر بكثرةِ أهلِ ملة، فما ذُكِرَتْ كثرةٌ في القرآن إلا ذمَها اللهُ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وما ذُكِرَتْ القلةُ إلا مُدحت {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ١٣ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} وليس الحقُّ مع أصحابِ المالِ والثرى، ولا بالمظاهرِ وجمالِ الظاهرِ، ولا مع أهلِ الثيابِ البرَّاقةِ والأجسامِ الناعمةِ، فكم من أشعثٍ أغبر، مدفوعٌ بالأبوابِ، لا يؤبَهُ بِه، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّه، ومن الناسِ من يُشْبه الحياتِ ملمسُها ناعمٌ، ومنظرُها جميلٌ وتضم بين حناياها السمَّ القاتلَ.
  قال تعالى في ذمهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
  وليس الحق بكثرة الأتباعِ، ولا في حلاوةِ الكلامِ، ولا في فصاحةِ اللسانِ وبلاغةِ الوعظِ، ولا في حسنِ التلاوةِ وحسنِ الصوتِ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ ٢٠٥}.
  مما لا شكَّ فيه أنَّ المعيارَ الصحيحَ للحقِّ هو الحقُّ ذاتُه، ولا عبرةَ بالرجالِ والأشخاصِ؛ وعلى هذا فإنه عندما قال الحارثُ بنُ حوطٍ لعلي #: يا أميرَ