الدعامة في الإمامة،

يحيى بن الحسين الهاروني (الإمام أبو طالب) (المتوفى: 424 هـ)

[تصويب أمير المؤمنين فيما فعله من التحكيم]

صفحة 68 - الجزء 1

  المهادنة إذا غلب على الظن أن ذلك يؤدي إلى زوال الفتن، والتمكن من حفظ البيضة، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا بين لا لبس فيه.

  فإن قال: ولم قلتم إنه # دفع إلى هذه الأحوال؟. ثم لم قلتم إنه لم يؤد إلى محظور ولم يقترن به وجه من وجوه القبح؟.

  قيل له: أما وقوع هذه الأحوال فإنه معلوم ضرورة لمن نظر في الأخبار، كما أن وقوع التحكم معلوم ضرورة، ولا فصل بين من يدفع ذلك وبين من يدفع نفس التحكيم.

  وأما الذي يدل على أن ما فعله # لم يكن محظوراً بل كان هو الواجب الذي لا يسوغ سواه في تلك الحال: أن ذلك إنما تضمن أمرين:

  أحدهما: موادعته للقوم إلى مدة معلومة.

  والثاني: إجابتهم إلى ما التمسوه من نصب حَكَم، فَحَكَّمَ بموجب الكلام وكل واحد منهما يجب فعله متى دعت الحال إليه عقلاً وشرعاً، لأن مهادنة الأعداء واجبة متى خشي الضرر العظيم في تركها، أو أمل الصلاح في فعلها عقلاً وشرعاً، ويدل على ذلك ما حكيناه من مهادنة النبي ÷ المشركين عام الحديبية على الوجه الذي هادنهم عليه، هذا مع توفر أصحابه صلى الله عليه وآله وشدة بصائرهم، وقوة ثباتهم في القتال وكراهتهم للصلح حتى كان من أكثرهم من إظهار الكراهة لذلك ما هو مذكور في كتب المغازي، وكان من عمر خصوصاً في ذلك الباب ما تغني شهرته عن ذكره، وحكي من تَشَكُّك كثير من ضعفاء المسلمين عند ذلك ما حكي، وهذا الأمر لا خفاء به ويحتاج إلى الإطالة فيه.

  وإنما نصب الحكم ليحكم بكتاب الله، ويبين موجبه عند التماس المخالفين ذلك، وخشية تشتت الكلمة، ووقوع ضرر عظيم لا يؤمن أن يتعذر تلافيه لا شك في وجوبه، بل قد يجب فيما دون هذه الحال، ألا ترى أنا نوجب مناظرة المخالفين وإيراد الأدلة عليهم، وحل شبهتهم متى غلب على الظن أنهم ينتفعون بذلك، ونقطع على أن ترك ذلك معصية عظيمة مع التمكن منه، وإذا ثبت هذا وجب على أمير المؤمنين # إجابة القوم إلى ما التمسوه من توجيه حكم يبين