الخطبة الثانية
  نخافُ عليهم من مرضٍ موهومٍ، فحصَّنَّاهم منه، وأمِنَّا عليهم من مُدْلَهِمَّاتِ لظى بِحَرِّها وأليمِ عذابِها، فلم نقِهم شرَّها ولهبَ حرِّها.
  ونبذنا أمرَ اللهِ تعالى وراءَنا ظِهْرِياً حين قال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} نخاف على أبنائنا الجوعَ والظمأَ، ولا نخاف عليهم الضلالَ والعمى. والله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا}.
  عبدَ الله: إن التقوى لا يصدقُ إثباتها إلا بصدقِ الخوفِ من اللهِ، ولذا قال المصطفى ÷: «رأسُ التقوى مخافةُ الله» والخوفُ الحقُّ لا يكونُ إلا بمعرفةِ اللهِ، ومعرفةِ شدةِ بطشِه وانتقامِه، وأنَّ أخذَه أليمٌ شديدٌ.
  فمَنْ منَّا معشرَ الموحدين يُمْسِي خائفاً ويُصبحُ خائفاً، يتذكرُ النارَ في اليومِ ولو مرةً، بل ولو في الأسبوعِ مرةً، بل ولو في الشهرِ، ويراقبُ اللهَ في حركاتِه وسكناتِه كما قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
  عبادَ الله: إن التقوى تنبعُ من قلبَينِ: قلبٌ ملأَ الخوفُ جوانبَه، وملكَ عليه جوانِحَه، يذكرُ اليومَ الآخرَ في كلِّ حينٍ، فكلما همَّ بمعصيةٍ ذكرَ النارَ فارتدعَ، فهو كما قالَ اللهُ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} وقلبٌ قد مَلِكَ الطمعُ لُبَّه، وطارَ شوقاً إلى الجنةِ والنعيمِ فأمدَّه بالطاقةِ والنشاطِ، فَهَبَّ لذكرِه وطاعتِه طمعاً في الثوابِ والنعيمِ.
  فأينَ نحنُ من هذه القلوبِ؟ هناك قومٌ يسعونَ للطاعةِ والعبادةِ بأجسادِهم، وقلوبُهم غافلةٌ، فلا مِن نارٍ يخافون، ولا في جنةٍ يطمعون، أصبحت صلاتُهم وصيامُهم وجميعُ عباداتِهم مجرَّدَ عاداتٍ وَرِثُوها عن آبائِهم، إذا صلَّى صلَّى بجوارِحِه وقلبُه في الغفلةِ والوسواسِ، وإن صامَ فَمِن الطعامِ والشرابِ ولسانُه في الأَعْرَاضِ، وعينُه في الحرامِ وأذنُه في سماعِ الآثام.