الخطبة الأولى
  قد فَصَّل الأمرَ بقولِه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فلا يعتذرون بالأموال ولا يتعللون بالتكسب وطلب الرزق {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ٥٧ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
  {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ٢٨ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}
  ابنَ آدم: ما دُمتَ في دارِ الخيار، وما دام فيك عرقُ ينبضُ بالحياةِ، فما زِلتَ إلى خيرٍ. ما زالَ بِوُسْعِكَ أنْ تعملَ الكثيرَ، ما زِلْتَ قادراً على تكفيرِ الخطايا، وتعويضِ الماضي ما زِلْتَ قادراً على تصحيحِ وضعِك وتدارُكِ ما فاتَك.
  {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} بل إنَّ اللهَ يدعونا ويتألفُنا لنرجعَ إليه، ويرغبُنا في فضلِه وسعةِ جودِه ورحمتِه، وعظيمِ عفوِه ومغفرتِه. ويأمرُنا بالتوبةِ والإنابةِ مهما كانت ذنوبُنا، ومهما بلغت خطايانا فلا نيأسْ ولا نقنط، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ٥٤}.
  المهمُّ هو أن نَصْدُقَ مع اللهِ، ومع أنفسِنا، وأن نُخلصَ التوبةَ للهِ، وأن نُعاهدَ اللهَ على أن لا نعودَ في معصيةٍ، وعلى أن لا نتركَ أوامرَه وفروضَه، مهما كانت الأسبابُ والمبرراتُ.
  عبادَ الله: والآنَ ألا يكفي ما مضى، ألا يكفي عشراتُ السنينَ التي ضيعناها في الغفلةِ واللهوِ واللعبِ؟ منَّا من ذهبَ نصفُ عمرِه، ومنا من ذهبَ ربعُ عمرِه، وبعضُنا شارف على النهايةِ، ورجلُه على شفيرِ القبرِ، ما الذي حصلناه؟ وما الذي انتفعنا به؟ لا شيءَ، ملذاتٌ وشهواتٌ ذهبتْ لذاتُها وبقِيتْ تَبِعاتُها، وكأنها أحلامٌ.