الخطبة الثانية
  أحداث عجيبة، وتدبيرات بديعة، تجرى في علم الغيب خلف حجب المشيمة، وظلمات الأرحام، والعبد الذي هو تلك النطفة الحقيرة غافل لا يعلم شيئاً، يتقلب بين يدي الأقدار تحرسه العناية الربانية، وتحوطه وترعاه الرحمة الإلهية. مَنْ غير الله يغذيه ويربيه؟ ومن لولاه يكلأُه ويحميه؟ من لولا الله يسوق له الهواء في بطن أمه؟ ويطعمه من حبل سرته، ومَنْ لولا الله يصرف فضلاته من الغائط والبول؟ إنه الله المتولي لكل ذلك والقائم على كل نفس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولكن أكثرهم لا يشكرون.
  فهل بعد هذه المنة من منة؟ وهل بعد هذا من فضل هل كفى بهذا زاجراً للعصاة ورادعا للغواة؟ ليثيبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم وفاطرهم ويعترفوا بفضله ويعظموه ويوقروه، وينبذون الشيطان وحزبه الذين يحولون بين العبد وربه {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ٦ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ٨ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وأن يجيبوا داعي الله الذي يوبخ به عباده في أكثر الآيات، ويذكرهم بنعمه عليهم وفضائله التي غمرهم بها وأسبغها عليهم {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ما الذي دهاك وأرداك ما الذي أغفلكَ عن ربِّك؟ من الذي أغواك وأغراك؟ وأبعدك عن مولاك {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} ماذا أعطاك من أغواك؟ وماذا أهداك من أغراك؟
  {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} إن اللهَ وحدَه هو المتفضلُ بخلقِك وتسويتِك وتصويرِك ولم يشركْ في ذلك أحداً فلماذا البعدُ عنِ اللهِ والنسيانُ لفضلِه وإنعامه؟
  عبادَ الله: أين الضمائرُ التي يهزُّها التأنيبُ أين القلوبَ التي يؤثرُ فيها الإحسانُ ويأسرها الجميل؟ هل من ضميرٍ يؤنبُنا، وهل من دافعٍ يزجرُنا؟ وعرقِ