الخطبة الأولى
  فلم يبقَ من عظمةِ القرآنِ في صدورِ الناس غيرُ رسمِ حروفِه، وأَشْكَالِ حركاتِه وسكناتِه.
  اشتغلنا بالشكلِ عن الجوهرِ، وبالقالَبِ عن القلبِ، وباللفظِ عن المعنى، وتمسكنا بالقشورِ وتركنا اللبَّ، جعلنا أكبرَ همِّنا حفظَ الآياتِ، وتحسينَ التلاوةِ، وتركنا ما هو أهمُّ من ذلك، وهو العملُ به وتطبيقُ أحكامِه وأوامِرِه، وإني والله لأخشى أن نصبح في زُمرة مَنْ قال الله فيهم: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.
  عبادَ الله: تأملوا معي بعضَ آياتِ القرآنِ وأحكامِه، وموقفَ الناسِ منها اليوم، فانظر إلى مَن يأكلُ المواريثَ وغلولَها، ونسيَ قولَ اللهِ في كتابه: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}.
  أينَ قاطعُ الصلاةِ من تهديدِ اللهِ بقولِه: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}؟!
  أين القاذفون للمحصنات - الذين يقولون فلانةٌ فعلت كذا وكذا - بلا دليلٍ ولا بينةٍ - مِن قول الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؟!
  إنها مجردُ أوهامٍ وظنونٍ كاذبةٍ استحقوا بموجبِها اللعنةَ والحكمَ عليهم بالفسقِ والخروجِ من رحمةِ اللهِ، والردَّ لشهاداتِهم مدةَ حياتِهم، وذلك لاستجابتِهم لشكوكِهم الكاذبة، وتركِهم للعملِ بأحكامِ القرآنِ، حتى وإن كان ذلك حقّاً، فالواجبُ السكوتُ؛ لأن القذفَ جرمٌ عظيمٌ، ولذا فإن البيّنةَ لا تقومُ إلا بأربعةِ شهداء، بينما يُقْبَلُ في القتل شاهدان، فلو أن ثلاثةً شهدوا على امرأةٍ بالزنا لوجب جلدُهم ولا تُقْبَلُ شهادتُهم إلا إذا بلغوا أربعةً عدولاً، فالمسألةُ عظيمةٌ، ليست مجردَ ثرثرةٍ، وتقطيعَ وقتٍ بالهتك لحرماتِ المؤمنين، هذا وإن نجا