الخطبة الثانية
  السفر الطويل
الخطبة الثانية
  
  الحمدُ للهِ الذي قَصَمَ بالموتِ رقابَ الجبابرةِ، وكسرَ بهِ ظهورَ الأكاسرةِ، وقصرَ بهِ آمالَ القياصرةِ، الذين لم تزلْ قلوبُهم عن ذكرِ الموتِ نافرةٌ حتى جاءهم الوعدُ الحقُّ فأرْدَاهم في الحافرةِ، فنُقِلوا من القصورِ إلى القبورِ، ومن ضياءِ المهودِ إلى ظلمةِ اللحودِ، ومن مُلاعبةِ الجواري والغلمانِ إلى مقاساةِ الهوامِ والديدانِ، ومن التَّنَعُّمِ بالطعامِ والشرابِ إلى التَّمَرُّغِ في الترابِ، ومن أُنْسِ العِشْرَةِ إلى وَحْشَةِ الوحدةِ، ومن المضجعِ الوثيرِ إلى المصرعِ الوبيلِ، فانظرْ هل وجدوا من الموتِ حصناً وعزًّا واتخذوا من دونه حجاباً وحِرْزًا، ثم انظرْ هل تحسُّ منهم من أحدٍ أو تسمعُ لهم رِكْزًا.
  وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ، انفردَ بالقهرِ والاستيلاءِ، واستأثرَ باستحقاقِ البقاءِ، وأذلَّ أصنافَ الخلقِ بما كتبَ عليهم من الفناءِ، ثم جعلَ الموتَ مَخْلصًا للأتقياءِ، ومَوْعِدًا في حقِّهم للِّقاءِ، وجعلَ القبرَ سِجنًا للأشقياءِ وحبسًا ضيِّقًا عليهم إلى يومِ الفصلِ والقضاءِ، فَلَهُ الإنعامُ بالنعمِ المتظاهرةِ، ولهُ الانتقامُ بالنقمِ القاهرةِ، ولهُ الشكرُ في السمواتِ والأرضِ، ولهُ الحمدُ في الأولى والآخرة.
  وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ الطاهرين.
  أما بعد عباد الله:
  إنَّ ما سبق ذِكْرُهُ، وما سمعناهُ في الخطبةِ الأولى ليسَ مجردَ قصصٍ وأساطيرَ، ليس تهويلًا ولا هُرَاءً ولا نافلةً من القولِ، إنه الواقعُ والحقُّ المرُّ الذي لا سبيلَ إلى إنكارِهِ، وسوفَ نلقى ذلك، وسوفَ نشاهدُهُ، ونتذكرُ حينَ لا ينفعُ الذين ظلموا