الخطبة الأولى
  واحدةً من جلساتِ محكمةِ العدلِ الكبرى، وأول عتبةٍ من عتباتِ العقبةِ الكؤودِ، والتي مقدارها خمسينَ ألفَ سنةٍ، كلُّ موقفٍ فيها ألفُ سنةٍ، ألا وإن محاكمةً هذه مدتُها حقيقٌ ألّا يكون الحكم فيها إلّا سرمداً أبداً، وخلوداً لا نهاية له، فعلى قدر المظالم تقامُ النوائحُ والمآتمُ، كما قيل.
  عباد الله:
  هل تَصَوَّرَ أحدٌ منا ما خبئ له من الأهوالِ والمصائبِ والمشاهدِ المؤلمةِ كالموتِ وسكرتِه، ومشهدِ القبرِ وغربتِه، ومشهدِ الحشرِ ووحشتِه، وما تخفي في طياتها من عبرٍ وفواجعَ، وآياتٍ مواجع.
  عبد الله:
  حَلِّقْ معي بخيالك، وتصوَّر معي ببالكَ، عبداَ مُسجّىً على فراشِ الموتِ، خاوي البطنِ من الماءِ والطعامِ، قد أنهكه المرضُ، واشتد به العَرَض، وزاد ما به شدّة سكرات الموت، وسهامِ الفوتِ، فعظمت كربتُه، واشتدت سكرتُه، وما إن فارقت روحُه جنبيه، حتى أغمضوا عينيه، وقربوه إلى المُغَسِّلِ ليُغسِّلَه، فأول ما أقدم عليه، أنْ مَسَحَ بطنَهُ وخِصْرَيْه، ليلقيَ ما تبقّى لديه، من فضلاتِ دنياه، ويخلى جوفه مما حواه، فيلقا اللهَ خميصاً خاوياً، ليزيدَ جوعَه وضماه، ويكثرَ همه وعناه، ويرجعَ إلى ربِّه كما جاءَ، بلا غذاءٍ ولا كساءٍ، ولا رفقاء ولا أبناءٍ، ليلجَ لحدَه، غريبًا وحدَه، وقد تَركَ كلَّ ما جمعه بعده، وصدق اللهُ القائلُ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ٩٣ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.
  فيمكثُ في قبرِهِ ما شَاءَ اللهُ من حياةِ البرزخِ، حتى إذا نُفِخَ في الصُّورِ وبُعثرتِ