الخطبة الأولى
  الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.
  يا لها من شدةٍ بلغت النصاب، وأَعْظِمْ به على أهلِه من مُصابٍ، فيه غاب الناصرُ والمعينُ، وذهب الأخوةُ والبنون، وكل يشكوا نفسي نفسي {يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ٣٤ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ٣٥ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ٣٦ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ما أشدَّها من حالٍ وما أبلغه من مآلٍ!
  الخوفُ والفزعُ بلغَ منتهاه، والهولُ والجزعُ بلغَ أقصاه، وما بالك بأفزاعٍ أشعلت مفارقَ الولدانِ شيباً؟
  ووضعت الحواملُ أجنتَها، ورمت المراضعُ بفلذاتِ أكبادِها، وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذابَ اللهِ شديد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ١ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
  يومُ القيامةِ لو عرفتَ بهولِه ... لفررتَ من أهلٍ ومن أوطانِ
  يومٌ تشققت السماءُ لهولِه ... وتشيبُ منه مفارقُ الولدان
  الجوعُ بلغَ غايتَه، والحرُّ شبّ لهيبُهُ، وابنُ آدمَ ذلك الضعيفُ الذي لا يطيقُ الجوعَ فوقَ ثلاثةِ أيامٍ، ولا يحتملُ حرَّ أيامِ الصيفِ، يقفُ اليومَ جائعًا وظامئًا خمسينَ ألفَ سنةٍ، فهو من يومِ فارقَ الدنيا لم يستلذ بأكلهٍ ولم يروِ ظمأَه بشربةٍ، وهو واقفٌ في صعيدِ المحشرِ بين شدةِ الحرِّ، والشمسُ قد أدنيت من الرؤوسِ تلفحُ الوجوهَ، وتلهبُ الأجسادَ.
  فاجتمعَ وهجُ حرِّها على الرؤوسِ، وحرُّ الخوفِ في النفوسِ، فتفجرَ العرقُ من تحتِ كلِّ شعرةٍ.