الخطبة الثانية
  حيثُ قالَ عزَّ مِن قائلٍ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} وكيف لا نفرحُ وقد أهدى اللهُ إلينا هذا المولودِ المباركِ الذي بفضلِهِ انقشعتْ سحائبُ الظلماتِ، وكشفَ اللهُ بهِ البلياتِ، وعمَّ العدلُ وانتشرَ الإسلامُ، وشعَّتْ أنوارُ الهدايةِ، وتحررتِ الأمةُ من قيودِ الرقِّ والعبوديةِ للبشرِ إلى عبوديةِ الملكِ الديانِ، وأيُّ شعيرةٍ أعظمُ من هذه وأحقُّ أن نحتفيَ بها ونحتفلَ، بل كيف نفرحُ ونحتفلُ بأعيادِ الثوراتِ والانتصاراتِ ونحوِها ولا نحتفلُ بيومِ مولدِ مَن هو أفضلُ ما حملتِ النساءُ، وخيرِ مَن وضعتِ الحواملُ، والذي كان مولدُهُ أعظمَ ثورةٍ على الظلمِ والطغيانِ، وأعظمَ محررٍ للبشريةِ من حبائلِ الشركِ وعبادةِ الأوثانِ.
  عبادَ الله:
  إنَّ مولدَ الرسولِ ÷ ليس مجردَ ولادةِ طفلٍ خرجَ إلى الدنيا فحسب، بل إنه أكبرُ وأعظمُ من ذلك، إن مولدَهُ كان إيذانًا بولادةِ عهدٍ جديدٍ، وبدايةِ حياةٍ جديدةٍ، بل لقد وضعَ خروجُهُ إلى الدنيا حدًّا فاصلًا لحياةِ اللهوِ ونهايةً لحياةِ الضلالةِ والجهالاتِ.
  فقد وُجِدَ سيدُ الثقلينِ وأبو القمرينِ في زمنِ جهالةٍ جهلاء، وظلمةٍ عمياء، بين أعرابٍ بلهاءَ قساةٍ جهلاء، لا يُحِلُّونَ حلالًا، ولا يُحَرِّمُونَ حرامًا، ينحتونَ الأحجارَ بأيديهم فيعبدونَها مِن دونِ اللهِ، همُ الذينَ صنعوها وبأيديهم سَوَّوها، ثم يَدَّعُونَ أنها التي خلقَتْهم، وأنَّ بيدِها الخيرَ والشرَّ، ومِن عندِها النفعَ والضرَّ، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
  يُشَرِّفونَ الذُكرانَ مِن الأبناءِ، ويدفنون الإناثَ أحياءً، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، فشا فيهم القتلُ