(3) خروج الخبر عن مقتضى الظاهر
البحث:
  عرفنا في الباب السابق أن المخاطب إن كان خالى الذهن ألقى إليه الخبر غير مؤكّد، وإن كان متردّدا في مضمون الخبر طالبا معرفته حسن توكيده له، وإن كان منكرا وجب التوكيد، وإلقاء الكلام على هذا النمط هو ما يقتضيه الظاهر. وقد توجد اعتبارات تدعو إلى مخالفة هذا الظاهر نشرحها فيما يأتي:
  انظر إلى المثال الأول تجد المخاطب خالى الذهن من الحكم الخاص بالظالمين، وكان مقتضى الظاهر على هذا أن يلقى إليه الخبر غير مؤكد، ولكن الآية الشريفة جاءت بالتوكيد، فما سبب خروجها عن مقتضى الظاهر؟ السبب أن اللّه سبحانه لما نهى نوحا عن مخاطبته في شأن مخالفيه دفعه ذلك إلى التطلع إلى ما سيصيبهم، فنزل لذلك منزلة السائل المتردد؛ أحكم عليهم بالإغراق أم لا؟ فأجيب بقوله: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}
  وكذلك الحال في المثال الثاني، فإن المخاطب خالى الذهن من الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} غير أن هذا الحكم لما كان مسبوقا بجملة أخرى وهي قوله تعالى: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} وهي تشير إلى أن النفس محكوم عليها بشئ غير محبوب، أصبح المخاطب مستشرفا متطلعا إلى نوع هذا الحكم، فنزّل من أجل ذلك منزلة الطالب المتردد، وألقى إليه الخبر مؤكدا.
  انظر إلى المثال الثالث تجد المخاطبين غير منكرين الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ} فما السبب إذا في إلقاء الخبر إليهم مؤكدا؟ السبب ظهور أمارات الإنكار عليهم، فإن غفلتهم عن الموت وعدم استعدادهم له بالعمل الصالح يعدّان من علامات الإنكار، ومن أجل ذلك نزّلوا منزلة المنكرين وألقى إليهم الخبر مؤكّدا بمؤكّدين.
  وكذلك الحال في قول حجل بن نضلة، فإن شقيقا لا ينكر رماح بنى عمه، ولكن مجيئه عارضا رمحه من غير تهيؤ للقتال ولا استعداد له،