البلاغة الواضحة،

علي الجارم (المتوفى: 1368 هـ)

الكناية

صفحة 131 - الجزء 1

بلاغة الكناية

  الكناية مظهر من مظاهر البلاغة، وغاية لا يصل إليها إلا من لطف طبعه وصفت قريحته، والسّرّ في بلاغتها أنها في صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها، والقضية وفي طيّها برهانها، كقول البحتري في المديح:

  يغضّون فضل اللّحظ من حيث ما بدا ... لهم عن مهيب في الصّدور محبّب

  فإنه كنى عن إكبار الناس للممدوح وهيبتهم إيّاه بغضّ الأبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة والإجلال، وتظهر هذه الخاصة جلية في الكنايات عن الصفة والنسبة.

  ومن أسباب بلاغة الكناية أنها تضع لك المعاني في صور المحسّات، ولا شك أنّ هذه خاصة الفنون فإن المصوّر إذا رسم لك صورة للأمل أو اليأس بهرك وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحا ملموسا.

  فمثل «كثير الرّماد» في الكناية عن الكرم و «رسول الشرّ» في الكناية عن المزاح وقول البحتري:

  أوما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحوّل

  في الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة، كلّ أولئك يبرز لك المعاني في صورة تشاهدها وترتاح نفسك إليها.

  ومن خواص الكناية أنها تمكّنك من أن تشفى غلتك من خصمك من غير أن تجعل له سبيلا؛ ودون أن تخدش وجه الأدب، وهذا النوع يسمى بالتعريض، ومثاله قول المتنبي في قصيدة يمدح بها كافورا ويعرّض بسيف الدولة:

  رحلت فكم باك بأجفان شادن ... علىّ وكم باك بأجفان ضيغم⁣(⁣١)


(١) الشادن: ولد الغزال، والضيغم: الأسد، أراد بالباكى بأجفان الشادن المرأة الحسناء، وبالباكى بأجفان الضيغم، الرجل الشجاع، يقول كم من نساء ورجال بكوا على فراقي وجزعوا لارتحالى.