الخطبة الأولى
  تأمل في الوجودِ بعينِ فكرٍ ... ترى الدنيا الدنيئةَ كالخيالِ
  ومن فيها جميعاً سوف يفنى ... ويبقى وجهُ ربِّك ذو الجلال
  إن للهِ من وراءِ هذا الكونِ الواسعِ، والفلكِ الساري حكمةً، ليس هناك من ذرةِ رملٍ أو عودِ شجرةٍ إلا وفيه مصلحةٌ، اختصَّ اللهُ بعلمِها، وغايةٌ أرادها اللهُ من ورائِها، وهذه المخلوقاتُ كلُّها وجدت من أجلِك أنت يا ابن آدم، كلُّ ما في الكونِ وُجِدَ من أجلِ هذا الإنسانِ، وسخرها اللهُ لخدمتِه ومصلحتِه، وهو لا يعلمُ، جعلَ اللهُ الشمسَ سراجاً وهّاجاً ليستضيءَ ابن آدم بنورِها، ويستدفئَ بشعاعِها، ويسعى تحت بريقِ ضوئِها، ليتكسبَ على نفسِه وأهلِه طوالَ يومِه، بلا دخوليةٍ ولا فواتيرَ شهرية، بل نعمةٌ مجانيةٌ، ورحمةٌ إلهيةٌ، ومنّةٌ ربانيةٌ، فما أجلَّها من نعمةٍ، وما أعظمَها من مِنَّةٍ.
  {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ}.
  والشمسُ إن خفيتْ على ذي مُقلَةٍ ... وسطَ النهارِ فذاك محصولُ العماء
  هي ذلك النجمُ الذي لشعاعِه ... نفعٌ يفوقُ نجومَ أطباقِ السماء
  ومن رحمةِ اللهِ أن جعلَ لنا القمرَ نوراً يضيءُ لنا عتمة الليلِ المظلمةِ، ويعينُ المسافرَ في الليلِ على سيرِه، وبه نعلمُ مواقيتَ الأيامِ والشهورِ، وأوقاتَ الصومِ والحجِّ، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ومن رحمةِ اللهِ أن جعلَ النجومَ الزاهرةَ للسماءِ زينةً، وحِفْظاً من الشياطينِ ورُجُوماً للمردةِ، وعوناً لنا على معرفةِ أوقاتِ الزراعةِ والحصادِ، كما قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ودليلاً هادياً لمن