الخطبة الأولى
  ضلَّ في الصحاري وبين لُجج البحارِ، وعوناً للمسافرين في طريقهم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
  عبادَ الله: انظروا في ملكوتِ السمواتِ والأرضِ وتأملوا في عظيمِ صنعِ اللهِ وبديعِ مُلْكهِ، تأملوا تلك النعمَ الجسيمةَ التي منحها اللهُ إلينا، وتفضَّلَ بها علينا ما أكثرَها وما أقلَّ الشاكرين عليها {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
  سبحانَ من ذَلَّتْ له الأشرافُ ... أكرمُ مَن يُرجى ومن يُخافُ
  تبارك اللهُ وجلَّ اللهُ ... أشرفُ ما فاهت به الأفواهُ
  تأمل في الماءِ، هذه النعمةِ الجليلةِ التي لولاها لهلكَ الإنسانُ، وذهبت البهائمُ ويبست المزارعُ وانعدمت الحياةُ، مَنْ غيرُ الله أمدَّنا بها، وأنعم علينا بها؟ ألا يستحقُّ اللهُ الشكرَ لأجلِها؟ وهو الذي يقول جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ ٦٨ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ٦٩ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} لو شاءَ الله لحوّلَ هذا الماءَ العذبَ الزلالَ إلى ماءٍ مالحٍ أجاجٍ لا تقدرون على شُربِه، وتهلك بهائمُكم وزرعُكم من ملوحتِه، جزاءَ نكرانِ النعمة والنسيان لشكر الله عليها، ولو شاءَ الله لغارَ بهذا الماءِ إلى تخوم الأرضِ فتعجزون عن لحاقه وطلبِه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} مَن غيرُ اللهِ يجلبُ لكم الماءَ العذبَ؟
  عبادَ الله: إن ما نراه اليومَ من شحةِ الماءِ، ونضوبِ الآبارِ وجفافِ العيونِ، لهو أكبرُ شاهدٍ على غفلةِ الناسِ عن شكرِ اللهِ، واستخفافِهم بنعمتِه وتقصيرِهم في حقِّه تعالى القائلِ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} الزرعُ مَنْ يرعاه؟ مَنْ يشقُّ له الأرضَ ويُجري فيه الحياة؟ مَن يُخرِج الثمارَ من أكمامِها؟ ومن يخلق الزهرَ من أغصانها؟ {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ٦٣ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ٦٤ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}.