الخطبة الأولى
  وقد أرشدَنا رسولُ الله ÷ إلى أن للعلمِ أولوياتٍ، وأن بعضَ المعارفِ أحقُّ بالمعرفةِ من بعضٍ وسابقة لها، فبيّنَ أن للعلمِ رأساً وبدايةً يجبُ أن يبتدأَ بها، وبَيَّنَ أن تلك البدايةَ تكونُ بمعرفةِ اللهِ، ولم يكتفِ بالحثِّ على مجردِ المعرفةِ السطحيةِ، بل قال (حقَّ المعرفةِ)، أي خلاصتُها وزبدتُها.
  فقال: وما رأسُ العلم؟
  قال: (معرفةُ اللهِ حق معرفته).
  فمن مفهومِ الحديثِ يتبينُ بأن المعرفةَ التي هي عدلُ اللهِ وتوحيدُه سابقةٌ لكل علمٍ، ومتقدمة على معرفة الأحكامِ الشرعيةِ ومعرفةِ الحلالِ والحرامِ والصومِ والصلاةِ وغيرها من الشرعيات، ويتحتمُ الوجوبُ بها قطعاً على كلِّ مكلفٍ، وأيما عبد قَصَّرَ في طلبِها، وتحصيلِ العلمِ بها فقد قصرَ في الإيمانِ.
  بل لقد أولى النبيُّ ÷ هذا العلمَ جُلَّ وقتِه وعَكَفَ على ترسيخِه في قلوبِ أصحابِه أكثرَ مدةِ الرسالةِ.
  فمعرفة الله إذا ما خالطَت القلوبَ ولدت الإيمان الصادق الذي يتغيرُ به كلُّ ما في الوجودِ، ولذا لم يكن مجردُ الدخول في الإسلامِ كافٍ لتحصيلِ معرفة الله بل لا بد من إجهادِ الفكرِ وإعمالِ النظرِ في البحثِ عمّا يقوِّي ذلك ويرسخُه في النفسِ.
  قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٤ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.
  فنفى عنهم حقيقةَ الإيمانِ حالاً لا مستقبلاً، لعدمِ توافرِ المعرفةِ الحقّةِ بالله لحداثتِهم بالإسلامِ، ونَسَبَهم للإسلامِ دونَ الإيمانِ لكونِ هذا الاسم أنسبَ لهم في وقتهم الحاضرِ نظراً لاستسلامهم.