سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 139 - الجزء 1

  الواسعِ ربًّا وخالقاً، وأن وراءَ هذه المخلوقاتِ البديعةِ صانعاً ومدبراً، وأنه المالكُ الخبيرُ الذي بيده تجري المقاديرُ، وأنه المنشئُ للسحابِ، ومرسلُ الرياحِ، ومنزلُ الغيثِ، ومكورُ الليلِ على النهارِ، ومجري الأفلاكِ، ومنبتُ النباتِ، ومدبرُ الأمورِ، وأنه المحيطُ عِلْماً بالكبيرِ والصغيرِ، والقائمُ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، غَرَسَ الرسولُ هذه المعاني في قلوبِ المؤمنين فعلَّمَ الصحابةَ كلَّ ذلك؛ فكَبُرَ الخالقُ في أنفسِهم، وعَظُمَ شأنُه في قلوبِهم، فوحَّدوه ونزَّهوه، وعظَّموه وقدَّسوه، وصَغُرَ ما دونَه في أعينِهم، وهانت عليهم أنفسُهم، فصارَ للهِ في قلوبِهم مكانةٌ عظيمةٌ، ومنزلةٌ كريمةٌ، فامتلأت قلوبُهم بتلك العظمةِ والجلالِ والكبرياءِ، فأخبتوا لله، ووقَّرُوا اللهَ، وانقادوا إليهِ مذعنين، وفي طاعتِه ونيلِ رضاه مسارعين.

  نعم: لقد عرفوا من عظمةِ اللهِ وجلالِه ما حَيَّرَ الألبابَ؛ أيقنوا بوجودِ اللهِ وعرفوا بأنه صاحبُ السلطانِ الذي لا يزولُ، والملكِ الذي لا يفنى، والقُوَّةِ التي لا تُقهر، علموا بأنَّ اللهَ تعالى هو صاحبُ الأمرِ المطلقِ، وأن بيده النفعَ والضرَّ يُعِزُّ من يشاءُ، ويُذِلُّ من يشاء، ولله العزةُ ولرسولِه وللمؤمنين، عرفت قلوبُهم كلَّ ذلك فسارعوا إلى طاعتِه وتنافسوا في القربِ إليه، يرجون رحمتَه ونيلَ رضاه، عرفوا قدرَ اللهِ وعظمةَ ملكِه، فتزاحموا على أبوابِ رضوانِه يخطبون ودَّه ورضاه، لينالوا العزةَ والكرامةَ التي قال عنها تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كانوا يرون في طاعةِ الله وخدمتِه كلَّ الشرفِ والفخرِِ والعزِّ الذي لا حَدَّ لَهُ، كانوا يشعرون بالعزةِ والكرامةِ لأنهم عبيدٌ لذلك الربِّ العظيمِ والملك القوي الكريمِ، يصورُ لنا تلك النشوةَ واللذة والسعادةَ أميرُ المؤمنين علي # بقولِه: (كفاني فخراً أنك لي ربٌّ، وكفاني عزّاً أني لك عبدٌ).