سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 140 - الجزء 1

  نعم عبادَ الله: لقد كان المؤمنون في زمنِ الرسولِ ÷ يعيشون حياةً سعيدةً يسودُها الرحمةُ والطمأنينةُ، وتغشاهم الرهبةُ والسكينةُ، كانوا يؤدون جميعَ مناسِكِ العبادةِ والطاعةِ على أكملِ وجوهِها بلا تعبٍ ولا كللٍ ولا مللٍ، بكلِّ حبٍّ وشوقٍ، وبكاملِ نشاطِهم العقلي والبدني، إذا نادى المؤذنُ للصلاةِ قاموا كلُّهم يصدعون بصوتٍ واحدٍ: (أهلاً ومرحباً بالصلاة) يذهبون نحو المسجدِ في خشوعٍ ووقارٍ تغشاهم السكينةُ فرحين بلقاءِ اللهِ والوقوفِ بين يديه، قد تطأطأتْ أعناقُهم هيبةً للهِ وحياءً من ذلك الملكِ العظيمِ الذي هم عليه قادمون، ففيما يُروى بأن الحسنَ السبط # كان إذا توضأَ اصفرَّ لونُه؛ فلمَّا سُئِلَ عن ذلك رَدَّ عليهم قائلاً: ألا تعلمون من أُقابل؟!

  هم ذلك النسل الذين لسانُهم ... تخطُّ عنه جميع ألسنة الورى

  تلك العصابةُ مَن يَحدْ عن سُبْلها ... حقّاً يُقالُ لمثْلِهِ أطْرِقْ كَرَا

  نعم عبادَ الله: إنها معرفةُ اللهِ، والعلمُ بقدرِه وجلالِه، إذا خالطت القلوبَ ملأتها بالهيبةِ والخشيةِ من اللهِ، هكذا كانت حالةُ المؤمنين مع اللهِ حيث بلغوا من درجات اليقينِ أعلى الدرجاتِ إذا دخلوا في الصلاةِ دخلوا بأجسادِهم وقلوبِهم يتجهون إلى الله قلباً وقالباً، قلوبُهم معلقةٌ بالله تكادُ أن تتقطعَ هيبةً وجلالاً من اللهِ، أصبحت الصلاةُ شغلَهم الشاغل لا يشغلُهم عنها شيءٌ، لا بالوساوسِ يلتهون ولا بالأفكارِ يشتغلون، بل يقفون وقفةَ العبدِ الذليلِ المذنبِ بين يدي الملكِ القوي القاهرِ، كأنّ على رؤوسِهم الطيرَ، في أدبٍ وخشوعٍ وذلةٍ وخضوعٍ يبكون ويتضرعون، يصلون صلاةَ مودعٍ وكأنما هي آخرُ صلاتهم من الدنيا، وهنا يصفُ لنا أحدُ الصالحين حالتَهم في الصلاةِ كيف يخشعُ فيها فقال: أقومُ فأكبرُ للصلاةِ وأتخيلُ الكعبةَ أمامَ عيني، والصراطَ تحتَ قدمي، والجنةَ عن يميني والنارَ عن يساري وملكَ الموتِ ورائي وأن رسولَ اللهِ ÷ يتأملُ صلاتي وأظنها آخرَ صلاةٍ، فأكبرُ اللهَ بتعظيمٍ، وأقرأُ بتدبرٍ، وأركعُ بخضوعٍ،