الخطبة الأولى
  وأسجدُ بخشوعٍ، وأجعل في صلاتي الخوفَ من اللهِ والرجاءَ في رحمتِه، ثم أُسَلِّمُ ولا أدري أقُبِلَتْ أم لا.
  نعم عبادَ الله: كانوا بعدَ كلِّ هذا يتمُّون الصلاةَ وهم وَجِلون خائفون أن يردَّ اللهُ عليهم صلاتَهم ولا يقبلها منهم، وليس كحالِنا حين ننفضُّ من الصلاةِ كالبركانِ يتسابقون من البابِ كأنما هم خارجون من سجنٍ لا يهمهم قُبِلَتْ صلاتُهم أم رُدَّتْ عليهم، ومن صورِ الخشوعِ والإقبالِ على اللهِ والانقطاعِ إليه ما رُوِيَ عن أميرِ المؤمنين # يوم أُصيبَ بسهمٍ في عضدِه ولم يقدروا على إخراجِه منه فقال لهم: إذا قمتُ إلى ربي فأنتم وشأنكم، فلما توجَه إلى الصلاةِ وانقطعَ إلى الصلاةِ وتعلقَ قلبُه باللهِ ونسي كلَّ ما حولَه فلانت أعضاؤُه وسكنت جوارحُه فقام الصحابةُ إليه واستخرجوا منه السهمَ وهو في رحابِ مولاه لا يحس بهم كأنما خدر جسمه وكأنهم ينحتون في جمادٍ.
  وكذا رُوِيَ عن ولدِه زينِ العابدين @ أنه احترقَ بيتُه وهو في الصلاةِ وهم يصيحون عليه النارَ النارَ؛ وهو لا يعي ولا يحسُّ بشيءٍ حتى أكملَ صلاتَه وقد خمدت النارُ من حوله ولم يُصَبْ بسوءٍ، فقيل له في ذلك؛ قال: شغلتني النارُ الكبرى عن النارِ الصغرى.
  عرفوا بحقِّ اللهِ وانقادوا له ... خضعوا له ذلاًّ مع العرفان
  سكنت جوارحُهم إليه على هدىً ... منهم ومعرفةٍ وصدقِ جنان
  لقد عرف أولئك المؤمنون معنى الصلاةِ، وعرفوا قدرَ العبادةِ للهِ، فالتهوا بها ونسوا كلَّ شيءٍ سواها، عرفوا بأنها ليست مجردَ قيامٍ وقعودٍ وحركاتٍ؛ بل لقد أيقنوا أنهم في حال مقابلةٍ ولقاءٍ مع اللهِ، وقفوا وقفة عبدٍ يناجي مولاه الذي يعلم سرَّه ونجواه.
  إنه مقامٌ مهيبٌ وموقفٌ رهيبٌ لا يمكنُ للعبدِ أن يلهوَ أو يغفلَ وهو يناجي مالكَ الملوكِ وربَّ الأربابِ، إنهم يعدون الغفلةَ بين يدي الله جرماً لا يُغفر