الخطبة الثانية
  لطاعةِ الله غرضٌ ولا مطمعٌ لا من نارٍ ولا إلى جنة، ولكنهم عرفوا رباً عظيماً رحيماً بيده العزةُ وإليه ينتهي الفخرُ والعظمةُ وأنه المتفضلُ عليهم بالحياةِ والموجدُ لهم من العدمِ وأن كلَّ ما في الكونِ ملكٌ له وفي قبضته فأحبوه وعظموه واستحيوا منه حقَّ الحياءِ وعبدوه وأخلصوا له في الطاعة لا لشيءٍ بل لأنه أهلٌ لذلك وأهلٌ لأن يُعَظَّمَ وأن تُعفّر الوجوه على عتباتِ أبوابِه، لقد عَظُمَ في قلوبِهم وجلَّ قدرُه في نفوسِهم وتعالى عندهم عزه وشأنه فطمعوا في خدمتِه وأحبوا قربَه أيقنوا بأنهم لو صاموا الدهرَ وقاموا حتى تتخلعَ أصلابُهم وركعوا حتى يصيروا كالحنايا وبكوا حتى تنفدَ الدموعُ وسبَّحوه حتى تكل ألسنتُهم ما ردوا له معروفَه وما أوفوه حقَّه ولا جازوه ببعض نعمه، لقد أحبوا الله حباً خالطَ قلوبَهم وملك جوانحَهم فكان أحبَّ إليهم من أنفسِهم وأهليهم ومن كلِّ شيءٍ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} بل لقد كان ذكرُ اللهِ وطاعتُه أحبَّ شيءٍ إلى قلوبِهم يتلذذون به في كلِّ حينٍّ فينسيهم ذلك ألمَ الجوعِ ولوعةَ العطشِ وألمَ الخوفِ وكلَّ ضررٍ لَحِقَ بهم، راحتُهم وسعادتُهم في طاعة الله لا رغبةَ لهم في غير الله ولا طمعَ لهم في سواه، الخيرُ كلُّه مع اللهِ والملكُ كلُّه بيدِ اللهِ، والعزةُ من اللهِ والرزقُ من عندِه فماذا بقي للفجرةِ والشياطين.
  ما الذي يملكُه أهلُ الكفرِ والنفاقِ ليطمعوا فيه وما الذي بأيديهم ليعطوه وهم المفلسون الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله فأيهما أفضلُ أن يكونوا عبيداً لمالكِ الملكِ أم عبيداً لعبيدٍ مثلِهم.
  نسألُ اللهَ أن يرزقنا معرفتَه وأن يسلكَ بنا سبيلَ الصالحين من عبادِه وصراط الذين أنعمَ عليهم من أوليائِه إنه وليُّنا ومولانا وهو حسبُنا ونعمَ الوكيل.