الخطبة الثانية
  قوةِ إيمانِهم بالله وسرعانَ ما انكشفت الحقائقُ وبان ضعيفُ الإيمانِ من القوي فقالوا: يا موسى إنا لمدركون {هلكنا} تزعزعَ إيمانُهم ونقصَ يقينُهم، فردَّ عليهم موسى وكلُّه ثقةٌ باللهِ: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ٦٢}.
  لم يقلْ موسى #: إن معنا، بل قال: معي وحدي، أما أنتم فقد نسيتموه فنسيكم. {نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} وذلك جزاءُ الظالمين.
  أما الواثقُ باللهِ المتكلُ على اللهِ، المفوضُ أمرَه إلى اللهِ، والذاكرُ له، سيكونُ اللهُ عونَه وأنيسَه، والمفرجُ عنه كلَّ كربةٍ كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}
  ولقد تكررَ مثلُ هذا المشهدِ في قصةٍ مماثلةٍ ومع نبي من أنبياءِ اللهِ ألا وهو خليلُ الرحمنِ إبراهيمُ # يومَ كادَه النمرودُ وقومُه وجمعوا الحطبَ له ليحرقوه، وأوقدوا النارَ، وأشعلوا الحطبَ، وإبراهيمُ # يومئذ مقيدٌ مكبلةٌ يداه ينظر إلى نارٍ قد تَلَهْجَمَ لظاها، واشتد حماها، وإنها لتحرقُ الطيرَ في جوِّ السماءِ من شدةِ حرِّها، وإبراهيمُ # ينظرُ حولَه ويتأملُ في ما أعدوه له، ولا يرى من يمدُّ له يدَ العونِ أو يرفقُ بحالِه أو تأخذُه الشفقةُ عليه حتى أهله وأقاربه قدموه قربانا لتلك الأصنامِ، وحكموا عليه بالإحراقِ والإعدامِ، ولكن إبراهيمَ # كان أقوى من أن يتسللَ إلى قلبِه الخوفُ، لقد كان واثقاً باللهِ، موقنا بنصر اللهِ، ومن كان اللهُ في عونِه فهو حسبُه، فلما عاين # هذا الموقفَ رفعَ طرفَه إلى السماءِ ولسانُ حالِه يقول: {حسبي الله ونعم الوكيل}، فعند ذلك ضجت الأملاكُ في السماءِ وأشفقت عليه الأرضُ والسماءُ، وهكذا المؤمن يحنُ عليه كلُّ رطبٍ ويابسٍ ويشفقُ عليه كلُّ مخلوقٍ لأنه مطيعٌ للهِ، واثق باللهِ، عابدٌ للهِ - فمن خاف اللهَ خافَ منه كلُّ شيءٍ، ومن أطاعَ اللهَ أشفق عليه كلُّ شيء - ونادت الأرضُ والسماءُ، والجبالُ والملائكةُ: ربنا عبدُك إبراهيمُ يحترقُ فيك فأذن لنا في نصرتِه.
  فقال ﷻ: (أنا أعلمُ به، وإنْ دعاكم فأغيثوه).