الخطبة الثانية
  يقولُ الرسولُ ÷: «من أخذَ دينَه عن التفكرِ في آلاءِ الله تبارك وتعالى وعن التدبرِ لكتابِه والتفهمِ لسنتي زالت الروسي ولم يزل، ومن أخذ دينَه من أفواه الرجالِ وقلدهم فيه مالت به الرجالُ من يمينٍ إلى شمالٍ وكان من دينِه على أعظم زوال» صدق رسول الله، وعلى هذا نشأ أكثرُ الناسِ يكرعون من آجن، ويتركون الآسن.
  لهذا كلِّه ولغيرِه رأيتُ أن كثيراً من الناسِ يدعي الإيمانَ والتقوى، وبينه وبينهما بُعْدَ المشرقين، ولهذا كثرت مذاهبُ الضلالِ، من جبرٍ وتشبيهٍ وإرجاءٍ وقَدَرٍ وغيِرها من الأباطيلِ والبدعِ التي ما أنزل اللهُ بها من سلطانٍ.
  حتى لم يبقَ من الإسلامِ إلا اسمُه، ولا من القرآنِ إلا رسمُه، فلولا النور الساطعُ، والضياءُ اللامع، السلالةُ النبويةُ الطاهرةُ، الذين بلغوا الناس عَبْرَ التاريخِ الطويلِ، وما زالوا يبلغون ويرشدون إلى طريقِ الحقِّ على أتمِّ وجهٍ، ويظهرون فسادَ كلِّ فتنة ويحذرون من كلِّ ضلالةٍ، لولا هؤلاء العترة، لتعرضَ الدينُ الإسلامي للمسخِ والطمسِ والتبديلِ والحذفِ والتغييرِ كما فعلَ بنو إسرائيلَ في التوراةِ والإنجيلِ، كما أخبرَ اللهُ تعالى عنهم بقوله: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}.
  عبادَ الله: لقد ابتعدَ الناسُ عن العلمِ والعلماءِ من أهلِ البيت الكرماءِ، فعاشوا في ظلامٍ وغفلةٍ، وعبدوا اللهَ على جهلٍ، وهجروا العلمَ الذي أوجبَه اللهَ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ، وكانت تُشَدُ إليه الرحالُ، من كلِّ مكانٍ أين ما كان؟ بتكاليفَ باهظةٍ، وطرقٍ مُتْعِبَةٍ، وبأساليبَ بدائيةٍ معقدةٍ، أما اليومَ فمعَ توفر وسائلِ التعليمِ، ووسائلِ النقلِ وسهولةِ المواصلاتِ بأنواعِها، وكثرت العلماء، وقربِ مدارسِه وسهولِة طلبِه وتعلمِه، ولكن للأسفِ لا ترى من يحركُ ساكناً